احمد الصراف

مشكلة الوجود المسيحي العربي

لا يعاني المواطن غير المسلم، والمسيحي واليهودي بشكل خاص، مشاكل كبيرة في العيش بسلام مع بقية مواطنيه في غالبية دول المغرب العربي، مقارنة بوضع أقرانهم في دول المشرق، على الرغم من أن وجود مسيحيي الشرق بالذات سابق لوجودهم في أي منطقة أخرى في العالم. لذا نجد أن المواطن غير المسلم في دول المغرب، بشكل عام، لا يفكر في الهجرة، كما هو حال، وربما مآل مسيحيي الشرق الذين يتملكهم يوما عن يوم الشعور بضرورة البحث عن موطن آخر، خوفا من التطرف الديني على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، على الرغم من أنهم كانوا هنا قبل المسلمين بمئات السنين!
يمكن القول بشكل عام، مع إصرار على تجاوز فترات مظلمة في تاريخ المسيحيين واليهود في دول الشرق، بأن أوضاع غير المسلمين «الأمنية بالذات»، في بلاد الإسلام بشكل عام لم تكن سيئة دائما، وخاصة في فترات التسامح والازدهار الثقافي والفني والبحث العلمي التي لم تستمر طويلا إبان حكم العباسيين. ولكن هذا الخوف تزايدت وتيرته مع بداية الصحوة الدينية الإسلامية «المباركة»، التي ترفض التعايش مع الآخر، ما لم يكن ذلك التعايش خاضعا لشروطها الدينية التي من أساسياتها تقسيم الآخر بين مسلم وذمي وكافر ومشرك وعبد وحر ورجل وامرأة وغير ذلك، وقد تسبب كل ذلك في حركة هجرة الشباب المسيحي إلى دول الغرب، وهي الهجرة التي بدأت هادئة ومتقطعة قبل ثلاثة عقود، وأصبحت أكثر وضوحا في السنوات القليلة الأخيرة، وبالذات من مصر ولبنان والعراق، وأغلب، وربما كل من هاجر من هؤلاء لا يفكر حتما بالعودة لما كان يوما، ومن آلاف السنين، البيت والوطن والأرض الطيبة! والغريب أن جهات إسلامية ومسيحية تشجع هؤلاء على الهجرة، سواء بالتهديد المباشر لأوضاع حياتهم، أو بإشاعة ما ستصبح عليه أوضاعهم في منطقتنا، إن تسلمت الأحزاب الدينية الأصولية زمام الحكم في أي دولة عربية، كل هذا مع وجود هاجس الدعوة التي تتبناها أحزاب وجهات عدة للعودة إلى نظام الخلافة الإسلامية، وكل هذه المطالبات كافية لبث الرعب في نفوس الأقليات المسيحية الشرقية، التي لم تنس ما عاناه آباؤهم وأجدادهم من ذل وتحقير على يد العثمانيين، التي يتجنب أتراك اليوم حتى التطرق إليها!
وقد يتساءل البعض عن سبب كل هذا الاهتمام بمسيحيي الشرق، والخوف على مصيرهم، وسبب الحرص على بقائهم بيننا، بالرغم من اختلافهم الكبير عن أسلوب عيش وتفكير الغالبية العظمى من سكان أي وطن عربي وشرقي، وللإجابة على ذلك، فإننا سنتجنب الدخول في متاهات التاريخ، وسنتجنب أيضا الجدال في العدد الحقيقي لمسيحيي دول الشام والعراق ومصر مثلا، قبل الغزو الإسلامي لبلادهم، أو بعد ذلك، لكي نؤكد حقهم في البقاء هنا ومعاملتهم كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، مثلهم مثل غيرهم، فهذا سيطول بحثه وربما لن ننتهي إلى نتيجة حاسمة، على الرغم من تاريخ التعايش المشترك الذي يجمع الطرفين لأكثر من 1400 عام وهو أكثر من كاف، بل سنحاول هنا أن نبين أن وجود المسيحي، وغيره من أتباع الديانات الأخرى، بيننا ضروري لصحتنا العقلية والنفسية ولتقدمنا الحضاري والثقافي، هذا إضافة إلى حقهم الطبيعي في هذه الأرض كغيرهم من المواطنين.
فلا أحد يمكن أن ينكر حقيقة أن عطاء المسيحي لوطنه في حقول الثقافة والفنون والآداب يزيد بكثير عن نسبتهم لعدد السكان الإجمالي في أي دولة عربية أو إسلامية بشكل عام.
كما أن الفضل يعود إليهم في المقام الأول في ترسيخ مفهوم الوطن والمواطنة، وبغيابهم يسهل على معادي هذا المبدأ محو هذا الشعور وإذابة الوطن في كيانات أكبر قد لا تكون مناسبة.
كما أن وجودهم بيننا، أو وجودنا بينهم، لا فرق، يجعل المجتمع أكثر تسامحا بعضه مع بعض من جهة، ومع الآخر من جهة ثانية. كما أن لغة التخاطب بوجودهم تصبح أكثر تهذيبا ورقيا، ولو كان مفتعلا في مراحله الأولى، فسرعان ما يصبح عادة وجزءا من مسار الحياة.
ووجودهم بيننا، أو العكس، يجعل من ألوان المجتمع وثقافاته أكثر تعددا وتنوعا ومن الحياة أكثر بهجة. وزيارة لقرى ومدن أقباط مصر في المنصورة، أو ضيع الموارنة في كسروان لبنان، أو مدن الأرثوذكس في وادي النصارى بسوريا، ستبين ما يعنيه هذا الكلام، فهل بإمكان أحد تخيل بكفيا أو شتورة أو بسكنتا أو صيدنايا أو معلولا أو حتى المنصورة من غير مسيحييها؟
وفوق هذا وذاك فإن المسيحيين العرب، بالإضافة إلى كل مناقبهم وإسهاماتهم الكبيرة في كل نشاط، لم تقع بينهم وبين المسلمين أي حروب حقيقية منذ انتهاء الحروب الصليبية، وحتى اليوم. كما أن الكثيرين منهم وقفوا مع صلاح الدين ضد الغزاة الصليبيين. كما ان مسيحيي لبنان ومسلميه لم تقع بينهم حرب دينية واحدة طوال أكثر من ألف عام، ولكن فجأة شعر المسيحي اللبناني والعراقي والمصري أن وجوده مهدد، بعد قتل رهبانهم وبطاركتهم وهدم كنائسهم ومنعهم حتى من ترميم القديم منها، وبعد كل ذلك ماذا يتبقى من وهج لبنان وعنفوانه وتنوعه إن رحل المسيحيون عنه؟ والأمر ذاته ينطبق على سوريا والعراق ومصر وغيرها من الدول العربية.

أحمد الصراف

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

احمد الصراف

إدارة الإعمال – جامعة الدول العربية – بيروت 1974 / الدراسات المصرفية والتدريب في بنك باركليز – لندن 1968 / البنك الوطني في فيلادلفيا – فيلادلفيا 1978 / الإدارة المصرفية – كلية وارتون – فيلادلفيا 1978
email: [email protected]

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *