احمد الصراف

الشيخ «عبدالله» وعصا موسى

كان الزمان أواخر ستينات القرن الماضي. كنا صبية صغارا نعيش في الحي نفسه، نلعب كرة القدم معا نذهب إلى البحر القريب معا، وندرس في المدرسة الحكومية نفسها. كنا نتساوى جميعا في قدراتنا وأحلامنا وطموحاتنا، إلا «عبدالله»، فقد كان أكثرنا بساطة وتواضعا في فهمه ومقدرته على الاستيعاب، وبالتالي لم تكن له أي أحلام أو طموحات، أو حتى أمل في السفر إلى الخارج للتعلم في جامعات الغرب، فقد كان يخاف الغربة ويكره التغيير. كما كان لا يشاركنا اللعب كثيرا ولا يحب التنافس والتناحر الطفولي، وأكثر ميلا للصمت والانزواء والبقاء في المؤخرة، وهكذا عاش طيلة سني معرفتنا به.
سنوات قليلة مرت ووجدنا أنفسنا جميعا في الثانوية، إلا عبدالله، فقد اختار الدراسة في أحد المعاهد الدينية، فكرهه للحساب والتاريخ والجغرافيا والأحياء والفلسفة، كما أخبرنا وقتها، دفعه الى اختيار دراسة لا تحتاج الىجهد كبير، بل للقليل فقط من التركيز وحفظ العلوم الدينية والأحاديث، والتي لا يحتاج فهمها لجهد كبير!! وهكذا تفرقت بيننا السبل، وابتعد عبدالله عن «الشلة» وأصبح له أصدقاء جدد، ولكن كنا نراه في الحي أحيانا وفي المسجد أحيانا أخرى، ومع الوقت تغيرت هيئة عبدالله فقصر ثوبه قليلا وأصبح يطيل لحيته، ثم سافر إلى مصر لإكمال تعليمه.
خلال سنوات قليلة، أكمل غالبيتنا دراسته الجامعية خارج الكويت، وعدنا للوطن أطباء ومهندسين ومحامين، وتقلبنا في مختلف المناصب الحكومية. أما عبدالله فقد عاد بعدنا بسنة، أو ربما بسنتين، بعد أن أنهى دراسته الدينية في مصر، وتوقعنا أن تنتهي الحال به مدرسا لمادة الدين أو ربما اللغة العربية!
خلال سنوات قليلة من تخرجنا بدأت العراقيل والمشاكل تواجهنا الواحدة تلو الأخرى، وفترت العلاقة بيننا شيئا فشيئا، خصوصا بعد أن تركنا جميعا الوظيفة الحكومية، بسبب الروتين الحكومي البالي، واخترنا إما العمل الحر وإما التوظيف في القطاع الخاص، واختار البعض العودة للعيش في أميركا، ولكننا بصورة عامة لم ننجح بشكل مثير في حياتنا، إلا واحدا أو اثنين من الشلة، أما الباقي فقد قبلوا بـ « المقسوم».
الوضع مع عبدالله كان شيئا آخر، فخلال ثلاث سنوات من عودته بالشهادة الدينية العالية أصبح وجهه شبه مقرر علينا في الصحف اليومية، حيث لم تكن تخلو جريدة من صورة أو تصريح أو فتوى أو رأي له. تعين في البداية مدرسا في مدرسة ثانوية، وانتقل بعدها بعام واحد ليصبح مدرسا في كلية الشريعة، بعد أن نجح في الانضمام لأحد الأحزاب الدينية الكبيرة. كما أصبحت الألقاب الفخمة تسبق اسمه حيث أصبح فقيها تارة وشيخا تارة أخرى، وعرف بالواعظ والملاج والمفتي، ثم تطور الأمر وأصبح يلقب بالأستاذ الدكتور، وكان معروفا أيضا كخطيب وإمام مسجد. وعلى الرغم من أنه لم يكن يداوم في الكلية، فانه استمر في قبض راتبه، من دون عمل حقيقي. وأصبح عضوا في ثلاث لجان شرعية لمراقبة أعمال البنوك والمؤسسات المالية التي تتبع النظام اللاربوي. كما أصبح عضوا في لجنة استشارية لتطبيق الشريعة. واشتهر في مجال كتابة عقود القران، بسبب المبلغ الكبير الذي كان يصر على قبضه مقابل كل عقد، وكان المعاريس يتسابقون على طلبه لعقد قرانهم وأخذ الصور التذكارية معه. وارتفع نجمه عندما نجح، بدعم من حزبه الديني، في إقناع الحكومة بمساواة خريجي الشريعة بخريجي كليات الحقوق في الكثير من مجالات العمل. وأصبح اسم عبدالله، خلال سنوات قليلة، يظهر على العديد من المؤلفات الفقهية، ويشارك في مؤتمرات الوسطية ويدير اللجان الدينية وينشط في اللقاءات السياسية والندوات الانتخابية مناصرا هذا ومزكيا ذاك، ومشاركا في الوفود الخارجية، ومستضيفا الزائر منها. واستكتبته مؤسسة صحفية ليكتب فيها عمودا يوميا، وبأجر مغر. ثم تطور الأمر معه وفتح مركزا في منطقة بعيدة لعلاج مختلف الأمراض بالرقية الشرعية، وأصبح المركز مصدر دخل كبير له. كل هذا دفع الإذاعة الحكومية لأن تخصص له ساعة في الأسبوع ليلقي مواعظه على المستمعين ويجيب عن استفساراتهم. ولم يتخلف التلفزيون الرسمي عن الحفل حيث خصص له يوما آخر في الأسبوع للرد على فتاوى المشاهدين. وكان كل جمعة يلقي خطبة عصماء في أحد مساجد منطقة سكنية مرموقة. وأصبح عضوا في ثلاث جمعيات خيرية ومشرفا على أكثر من صندوق وقفي فيها.
ولو أخذنا بالاعتبار ما يتطلبه الاهتمام بمتطلبات زوجاته الثلاث وأولاده الثمانية، وما يستهلكه تأليف الكتب من جهد ووقت، وما يعنيه إلقاء المحاضرات والمواءمة بين متطلبات العمل في الإذاعة والتواجد في التلفزيون من وقت، وفوق هذا كتابة عمود يومي والتصدي للإفتاء والإمامة وحضور جلسات لجان البنوك والمصارف، لوجدنا أن عبدالله البسيط المتواضع القليل الاستيعاب والفهم الكاره للرياضيات والجغرافيا والأحياء والتاريخ، قد أصبح فجأة رجلا خارقا، أو سوبرمان، ولكننا لم نكن نعرف ذلك، والدليل أننا فشلنا جميعا، نحن خريجي المدارس البريطانية والفرنسية والأميركية، في تحقيق نصف، أو حتى ربع ما حققه عبدالله من نجاح مالي ومعنوي وسياسي واجتماعي في مجاله الديني! وهذا دفع أحدنا، في واحد من لقاءات الشلة النادرة، لأن يشك في أن عبدالله ربما يمتلك «عصا موسى» السحرية ليكون بإمكانه القيام بكل هذه المهام منفردا!
ملاحظة: علىالرغم من أن شخصية عبدالله من وحي الخيال فان ما يماثلها موجود بيننا بكثرة، وفكرة المقال تعود للقارئ الفاضل «جابر»!

أحمد الصراف

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

احمد الصراف

إدارة الإعمال – جامعة الدول العربية – بيروت 1974 / الدراسات المصرفية والتدريب في بنك باركليز – لندن 1968 / البنك الوطني في فيلادلفيا – فيلادلفيا 1978 / الإدارة المصرفية – كلية وارتون – فيلادلفيا 1978
email: [email protected]

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *