لا تبارح الصورة ذاكرتي، بل إنني أجزم أنها لا تبارح ذاكرة الكثير من المواطنين ممن اعتادوا على زيارة موقع مدفع الإفطار في منطقة النعيم في شهر رمضان المبارك، والذي يتحلق حوله في العادة مواطنون ومقيمون، كبارا وصغارا، لينتظروا بطول صبر ورغبة قوية لحظة الإطلاق التي تزداد مع اقترابها القلوب دقا والعيون اتساعا… ثم تأتي اللحظة… ثلاثة اثنان واحد، او واحد اثنان ثلاثة… لا فرق… أطلق! تنطلق القنبلة الصوتية مدوية ثم ما هي إلا لحظات حتى يتفرق الناس في سرعة في كل اتجاهات تاركين خلفهم غمام الغبار والأتربة وأصوات أبواق السيارات في حال الاحتكاك والاختناق المروري الذي يسببه تكدس السيارات عند مخرج معين…
لكن في الغالب الأعم، تكون الوجوه كلها مبتسمة ومسرورة… أولا لأن الأطفال فرحوا بالمشهد المحبوب، ثانيا، والأهم، هو أن الصائم سيفرح بعيده الأول حينما يصلي ويفطر وتمتلئ المعدة بما لذ وطاب من الطعام، ولا شأن لخلق الله لنا بعد ذلك.
هلا تذكرتم هذا المشهد الجميل؟
ماذا لو طبقنا هذا المشهد على ما يجري في بلادنا اليوم؟! من البديهي أننا سنجد مدفعا في مكان ما شاهرا ظاهرا، وربما لن نتمكن من ذلك حينما يكون المدفع مخبوءا في مكان ما في الحفظ والصون، وسيبقى، في كلتا الحالين، الناس في انتظار لحظة مجهولة، ولربما كانت لحظة الإطلاق آتية آتية لا محالة، وهذا ما لا يتمناه أحد، ولربما كانت مجرد قنبلة صوتية، تتفرقع ثواني ثم تنتهي تاركة الغبار.
وكم هو مؤسف أن تعيش البلاد على مجاميع من المقولات السرية، والمعلومات السرية، والتحركات السرية والنوايا السرية والتقارير السرية وكل ما هو سري، والأشد في ذلك هو أن أي تآمر على هذا الشعب سيكون مصيره الفشل، لكنه لن يصل الى مرحلة إقباره قبل أن يذيقنا جميعا، حكومة وشعبا، الويلات والويلات!
نتخبط… هكذا يبدو؟ أليس كذلك؟ تتخبط الدولة… تتخبط مؤسسات المجتمع المدني… تتخبط المعارضة… تتخبط نفسياتنا… تتخبط علاقاتنا مع بعضنا بعضا، لكنهم هم دون غيرهم، من يخططون لإشعال فتيل الفتنة والنار التي يعلمون أثرها ولا نعلم، يبغونها ولا نبغي، تسعدهم ولا تسعدنا… هم وحدهم الذين لا يتخبطون أبدا.
واذا كان الأمر تقصيرا، فالكل مقصر، ولا بد من الاعتراف! فالدولة قصرت كثيرا في التعاطي مع الملفات الحساسة الى درجة إبقائها معلقة بلا إجابات، والمعارضة مقصرة أيضا في الثبات على منهجية العمل الموحد والقرار الموحد في اتجاه العمل مع نظام الدولة دونما إعطاء فرصة للآخرين لأن يشككوا في الانتماء ابتداء، إلى الولاء انتهاء… المثقفون وعلماء الدين والناشطون والوجهاء… الكل مقصر، وإلا لكنا انتهينا منذ أمد طويل من 30 أو 60 أو حتى الآلاف من أولئك الذين يخططون لزعزعة استقرار المجتمع بعد أن نعرفهم وأؤكد (نعرفهم) أولا من هم، وماذا يريدون؟ وما الذي فعلوه وما الذي سيفعلونه؟ سواء تدربوا على رمي الحجارة أو استخدموا بطاريات إطلاق سكود!
لا أحد يمكنه التكهن بما ستكون عليه الأحوال مستقبلا… ستار الظلام الكثيف يعمي القلوب والعيون، ولن تكون لحظة الإطلاق – إن صدق الزعم – إلا علامة على الدخول في نفق أكثر إظلاما إن اكتفت السلطة والمعارضة بالتعامل الإنشائي، وإن تركت بعض الصحف ترقص (بلا سروال) فكيف اذا كانت (مسرولة)، لتجعل الناس يتابعون بدقة، ما جاء في الأوراق الماضية، من خطوات وخطط وبنود، وليزداد الوجل والترقب وغليان الصدور.
وتبدو المحاولات لإحاطة البيت البحريني بالحنان والمودة والعاطفة معدومة، وإن كان بعضها قائما، فهو لا يخلو من افتراض سوء النية… والله لا أدري لماذا، لكنه أمر قائم ولا يستطيع أحد، صادق في تحليله، أن يخالفني في ذلك، ولكن لا بد من القول إن هناك حاجة الى مكاشفة ووضوح تجاه ما تشهده بلادنا من احتقان خفي، ويجب على السلطة أن تبادر… نعم أن تبادر وتقول ما تشاء لشعبها، فبلادنا حرة مستقلة وحكومتنا الخليفية شرعية ودستورية ومؤسساتنا قائمة، فلن يهمنا بعد ذلك أن قلنا الخطر الصفوي (جبنا وتغليفا) أم (الإيراني) جرأة وقوة، أو أصبحنا نقول البحريني الموالي (سني) والخائن المخطط (شيعي)، ولن نخاف من أن نرفع الصوت في وجه كل من يحاول زرع الفتيل الناسف تحت أقدامنا.
التهم متبادلة اليوم، وهذا يعني أن مرحلة ساخنة من الإخلال بالأمن الاجتماعي في البلاد بدأت تظهر رويدا رويدا، وقد كتبت سابقا مشيرا الى أن السجال شديد، ويبدو أن بعض حملة الأقلام والمفكرين والمثقفين والكتاب الذين هم نخبة الأمة، بدأوا يعودون الى مرحلة مص الأصبع في الطفولة انتظارا لمرحلة الحبو ومن ثم الوقوف والسقوط لحين اشتداد العظم!
بعض أولئك، من سنة وشيعة، بدأوا يتفننون في كيفية إلصاق تهمة العار بالآخر… إن من المهم في هذه المرحلة، وفي هذا الظرف بالذات، أن يخنق أحد الطرفين الآخر… وأمام الحكومة، في طقوس سيئة لتقديم قربان الولاء والطاعة والامتثال في جو من الألم المقلق يلف بلادنا من أقصاها الى أدناها.
أقصر السبل لدى بعض المتسلقين وكتبة الأوراق السرية وموظفي الأعمدة الصحافية مدفوعة الأجر أن تلقي التهمة على «ولاء الشيعة أولا» وتجردهم من «الدم البحريني الخالص» المشترك بين السنة والشيعة، لتبدأ بعد ذلك عملية غرس أنياب فتنة القصد منها وضع الشيعة في لائحة الاتهام… فهم الذين يحرقون «وهذا ليس بجديد على الرافضة منذ قديم الزمان»، وهم الذين يفجرون اسطوانات الغاز، وهم الذين يحرقون الإطارات وإشارات المرور، وهم الذين يرفعون صور الخامنئي وبن لادن، وهم كذلك الذين يجلسون على الأرصفة لبيع ولائهم… هذا ما يردده البعض لكن بصياغات مختلفة!
من السهل أن نلصق التهمة بأهالي قرية أبو صيبع وبني جمرة، ومن السهل أيضا رمي التهمة على أهالي قرية «الديه» لأن حرائق ليالي الجمعة تحدث أمام قريتهم؟ لكن سيكون مستحيلا أن يوجه الاتهام إلى أهالي قرية البديع أو الجسرة أو الحد أو البسيتين حين ترى إطارات مشتعلة ترتفع منها النيران… أليس كذلك؟ لأنك ستسأل عن الفاعل!
ليس هناك وقت لنستمع الى العد التصاعدي أو التنازلي… من الواحد إلى الثلاثة، لكي نشاهد لحظة إطلاق «القذيفة»، لكن على أية حال، ليس هناك ما يوحي بأن الوضع يسر… أو الحال مطمئن، ولم نعد نسمع الناس تكرر كثيرا عبارة ما أجملها: يسرك الحال!