مع شديد الأسف، تتوارى أصوات علماء «الأمة» الأفاضل ذوي الحرص على استقرار المجتمع الإسلامي وتختفي، فيما تتصدر خطب وأقوال وهستيريا مشايخ «الفتنة»، وهم في الغالب (نكرات) ليس لهم ثقل في الأمة، حتى وإن ذكرنا من بينهم علما كبيرا أو علمين من لهم مكانة واحترام، لكنه لكنهما، أسقط أسقطا أنفسهما في براثن الفتنة والدعوات التحريضية التي لا تزال آثارها باقية وماثلة في العالم الإسلامي لسبب أن دعوة جاهلية أو خطبة رعناء أو لقاء في قناة فضائية أحدثت بين بعض أبناء الأمة ما أحدثت من خلاف وشقاق وعداء وكراهية.
والحال كذلك، لا يظهر على السطح إلا دعوات الفتنة، فتنتشر سريعا في كل مكان، ويعقبها حملات مؤيدة ومعارضة، فيما يندر أن تجد كلمة سواء من قبل علماء الأمة الأفاضل وقد احتوت كل هذا الهوس بالطائفية والتدمير والرغبة في رؤية الدماء والتناحر.
في أحد المراصد العربية المعنية بالاستفتاءات، طرحت قضية خطورة الخلاف السني الشيعي على السلم الاجتماعي في الدول العربية والإسلامية للنقاش، وشملت العينة المبحوثة 1775 مشاركا من مختلف المذاهب الإسلامية، ووفقا للاستفتاء، رأت نسبة 18.08 في المئة (المصوتون = 321) أن تصعيد الخلاف السني الشيعي وراءه مخابرات دولية مثل الموساد وغيرها، بينما نسبة مقدارها 49.07 في المئة (المصوتون = 871) أن الفكر التكفيري السلفي والمنهج المتشدد المتعصب وراء الفتنة الطائفية في العالم العربي والإسلامي، بينما ذكرت شريحة أخرى نسبتها 12.56 في المئة (المصوتون = 223) أن التطرف الشيعي في العبادات وممارسات الشعائر وطرحه للمسائل التاريخية هو الذي سبب الفتنة الطائفية بين المسلمين، وأشارت نسبة مقدارها 5.79 في المئة (المصوتون = 106) إلى أن الجهل في معرفة كل مذهب بالآخر هو وراء ظاهرة التعصب المذهبي، واعتبرت نسبة مقدارها 14.31 في المئة (المصوتون = 254) أن غياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحريات الدينية وراء ظهور التعصب المذهبي.
ولم يخف بعض الكتاب والباحثين، ومنهم الكاتب والباحث الجزائري باهي صالح، قلقهم من تنامي ظاهرة (الكراهية بين أبناء السنة والشيعة)، لكنهم يحصرون أسبابها في (فتنة) مروجي الطائفية من بعض من يطلق عليهم (علماء)، وغياب الدور الحقيقي للعلماء العاملين، فباهي صالح يشدد على أن مشايخ الحمق والهبل من الطّائفتين (الشّيعة والسّنة) يدقّون طبول حرب وشيكة بين الشّيعة والسّنة، يصبّون الزّيت والبنزين على النّار بتصريحاتهم الغبيّة، والعامّة من ورائهم يتحرّكون بالرّموت كنترول. مندفعون بلا وعي ولا عقل، إرادتهم توجّهها العاطفة الدّينيّة الجيّاشة، لا همّة لهم إلاّ في القتل والإفساد والأذى، عقولهم صادرها علماء دينهم فلم يعد لهم عليها سلطان، وبعزيمة تشحذها وتقوّيها الرّغبة في إحياء فريضة الجهاد ونيل إحدى الحسنيين… إمّا النّصر أو الاستشهاد يتواجه الفريقان على ساحات الوغى في بلدانهم وأوطانهم، وبذلك يكفي اللّه «إسرائيل» ومن ورائها أميركا شرّ القتال (انتهي الاقتباس).
لكن من أصدق الدعوات، تلك الدعوة التي وجهها حديثا العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، وهي بمثابة نداء خص فيه علماء المسلمين من السنّة والشيعة، قال فيه إنه في غمرة الحوادث التي تعصف بالعالم الإسلامي، وفي ظلّ تصاعد الأزمات وتشكّل المحاور السياسية والطائفية والمذهبية داخل الأمة، وصولا إلى الاشتباك الأمني والسياسي والثقافي، والصراع على الأوهام تحت عناوين حماية هذه الجماعة أو تلك، أحببت أن أتوجه إلى علماء المسلمين من السنة والشيعة لأطلب منهم أن يتحملوا مسئوليتهم التاريخية أمام الأمة ومصيرها.
إذا، هي المسئولية التاريخية، التي يتجاهلها علماء الفتنة، وفي الوقت ذاته، نبحث في مجتمعاتنا الإسلامية عمن يحملها بصدق وإخلاص في العمل، فلا نرى إلا كهمل النعم، ما ينبئ بالمزيد من التناحر، إن بقي ورثة الأنبياء في منأى عن حمل أكبر مسئولية ملقاة على عاتقهم.