محمد الوشيحي

زيارة «العتيبي» ضرورية

إصبع الإيرانيين الأوسط مكسور باتجاه الأمام، تماما كما كان إصبعي الأوسط الذي أصيب أثناء لعب الكرة الطائرة قبل سنوات، عندما تصديت لـ«كبسة» متقنة جاءت على رأس الإصبع من فوق فطرقع طرقعة موسيقية دفعتني للعب بيد واحدة، إلى أن شعرت بألم ودوخة فخرجت من الملعب طالبا التبديل. وفي المساء اشتد الألم فتوجهت للمستشفى الذي أحالني إلى مستشفى الرازي للعظام، وهناك أبلغوني بأنه مكسور وقاموا بتجبيره.
إلى هنا والأمن مستتب، والناس تأكل السندوتش، لكن المشكلة ظهرت بعد إزالة «الجبس» أو الجبيرة التي كانت تلف الإصبع والكف، إذ تشكل الإصبع على شكل زاوية قائمة للأمام، أي والله، وأمسيت كلما رفعت يدي لتحية أحد وكأنني أشتمه شتيمة قبيحة بسبب منظر هذا الإصبع المجنون المشبوه. بل وحتى من دون تحية كان منظره يثير الشبهات. وكان الربع، وهم مجموعة من الأتقياء، يذكرونني في الديوانية بمن نسيت السلام عليه، فأبادره مباشرة: «مساك الله بالخير»، رافعا كفي وإصبعي باتجاهه.
لم يكن أمامي سوى التوجه لعمنا الكبير أطال الله عمره وأمده بالصحة والعافية عبد العال العتيبي، طبيب العظام الشعبي الشهير، أو «المجبّر» كما نسميه، الذي عاين الكسر وأبلغني بهدوء جميل أن الأطباء أركبوا عظما فوق عظم، والعلاج الآن يحتاج إلى كسر الإصبع وتجبيره من جديد، ثم سألني بهدوء أشد: هل ستحتمل الألم لوحدك أم تحتاج من يمسك ذراعك كي أكسر إصبعك وأعيد تركيبه، فتبسمت بطاووسية، وقلت: تفضل هاك الإصبع فاكسره حماك الله، فطلب من مساعده الهندي القبض على ذراعي، فزجرت الهندي ولساني حالي يردد مع الأخ عمرو بن كلثوم بيتا من معلقته الجميلة: «ألا لا يعلم الأقوام أنّا، تضعضعنا وأنّا قد ونينا»، وكررت كلامي: تفضل يا عم، اكسر واجبر كما تشاء، فتوكل عمنا على الله وكسر الإصبع، طق طق، ومن دون شعور نهضت لشدة الألم واقفا كاتما صرختي، وبسرعة قبّلت خشم الهندي كي لا أقتله، فأجلساني بعدما شاهدا عروق رقبتي وجحوظ عينيّ وأدركا صعوبة موقفي، وانقطعت أنفاسي، لا حول ولا قوة إلا بالله، أين ذهبت أنفاسي في هذا اليوم المبارك؟ وراح العم يلف الجبيرة ويوصيني بعدم فكها قبل واحد وعشرين يوما.
خرجت من «غرفة العمليات» فشاهدت الناس ينتظرون على الكراسي، ولا أدري لماذا أحببتهم كلهم، شعرت تجاههم بود وحميمية وكأنهم كلهم أشقائي، تقول مودّع الحياة، رحت أسلم عليهم، وأسألهم عن أحوالهم، وأنا لا أعرفهم والله العظيم: «شلونكم يا الربع، عساكم بخير، ممتاز العم عبد العال، صدقوني، الله يعطيه العافية، توّه كاسر إصبعي من دون تخدير، وناسة، وطني الكويت سلمت للمجد وعلى جبينك طالع السعد»، وتركتهم يبحلقون بعيونهم كما يشتهون، فحرية البحلقة مكفولة، ونهضت باتجاه سيارتي، وشعرت برغبة عارمة بالبكاء، أي والله، ولم أستطع الوصول للسيارة لبعد المسافة وانقراض الأنفاس، فجلست على الأرض مسندا ظهري على عجل إحدى السيارات القريبة، وفمي مفتوح على آخره بحثا عن الأنفاس الحقيرة، وكلما عثرت على نفس تائه شفطته ورفعت يدي للسماء: «الحند لله الحند لله» كما كانت تقول حماة الكاتب محمد حلمي منصور.
وتقول مللت يا صاح من الجبيرة وضقت بها ذرعا، فخلعتها قبل مرور عشرة أيام، وعشت حياتي، وبعد نحو شهر عاد الإصبع تدريجيا إلى وضعه القبيح، منحنيا إلى الأمام، وراحت «كسرة» الإصبع هباء منثورا، إنا لله وإنا إليه راجعون، أين أنت يا عمنا عبد العال؟… وفي منزل «المجبر» حكيت له الحكاية، فغضب وأبلغني بأن العظم التأم ويحتاج إلى كسر وإعادة تجبير مرة أخرى، وكرر سؤاله: هل ستتماسك أم تحتاج إلى الهندي؟ فأطرقت ورحت أشتم عمرو ابن كلثوم، «أصلا لو كان فيه خير ما سمّوه باسم أمه، وبعدين هل هناك رجل عليه القيمة اسم أمه كلثوم»، والتفت للهندي مستجديا: «اشبط فيني يا اللحية الغانمة». وعلى بركة الله، كسر عمنا إصبعي للمرة الثانية، ولم ينس الوصية الزاجرة: «لا تفك الجبيرة لثلاثة أسابيع، فاهم؟».
وخرجت بلا أنفاس، وتكرر المشهد، فسلمت على الجالسين فردا فردا: «تامرون على شيء يا شباب؟ توّه كاسر إصبعي للمرة الثانية، من رخصتكم خانقتني العبرة، سلامو عليكم». وأربعة أسابيع يا معلم، أسبوع إضافي من عندي مجانا. وعاد الإصبع إلى مكانه سالما غانما.
واليوم ومن ودون أن تسيل قطرة دم إيرانية واحدة، يتبادل الإيرانيون المايكــــروفونــــات فزعة لغزة، كثر خيرهم، وما أن ينتهي أحدهم حتى يرفع كفه لتحيتنا، نحن العربان، وإصبعه الأوسط المكسور باتجاهنا. يبدو أنهم في مسيس الحاجة إلى زيارة سريعة للعم عبد العال العتيبي، ومراجعة قصيدة ولد كلثوم.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *