كان ذلك قبل الغزو… أحد عشر كويتياً مراهقاً، يسبح كلٌّ منهم في بحر عامه الثامن عشر، وعشرون مراهقاً عراقياً يكبرونهم بعامين، تجمعهم الكلية العسكرية في القاهرة.
وكعادة المراهقين، لا يمر يوم من دون أن يسجل التاريخ لهم «هوشة»، أو «عركة» بالعراقي. إلى أن ضاق العراقيون ذرعاً بنا وبعركاتنا التي لا تنتهي، وصاروا يتفادون مصادمتنا، لا خوفاً منا بل من عقوبات إدارة الكلية التي قد تنتهي بالفصل الذي يتبعه عقاب الجيش العراقي.
وتوالت الأيام والعركات، وبلغني ذات مساء أن العراقيين ضربوا أحد الزملاء، وأنه يرقد الآن في عيادة الكلية في حالة حرجة، فاقتحمت «عنبر» العراقيين، على اعتبار أنهم ما إن يروني حتى يتشعبطوا بالسقف هرباً، أو يندسوا تحت أسرّتهم فزعاً، فأضطرّ مكرهاً إلى سحب كلٍّ منهم بـ»كراعه» من تحت سريره، وكف كفين، وبكس بكسين، وأعود إلى «عنبر» الكويتيين بالغنائم. لكن خطأً ما حدث في السيناريو، إذ أغلق العراقيون باب مهجعهم، وأنا في الداخل! ووفقهم الله فخنقوني، وألهمهم الله فداسوا في بطني، وأعطوني ما تيسر من اللكمات، والرفسات، ثم حملوني، مشكورين، ورموني خارج «العنبر» وأغلقوا الباب على أنفسهم، تحسباً لانتقام الكويتيين.
وكنت – لشدة الخنق الذي تعرضت له – أشرح ما حدث للربع بالبحّ الفصيح: بح بح بحوح، وأشير بأصبعي إلى عنبر العراقيين، فهجم الربع عليهم، بعدما انتزعوا ألواح الأسرّة ليستخدموها كهراوات، وأخذوا يدفعون الباب من الخارج ليقتحموا العنبر، والعراقيون المتحصنون يدفعون الباب من الداخل، وباءت محاولات الربع بالفشل. ونقلوني إلى العيادة، وكان عذري للطبيب كالعادة: «تزحلقت على السلّم»! وروى لي الربع أن الزميل الجهراوي الأصيل بدر الشمري – الرائد حالياً، شفاه الله من مرضه العضال، وهو من فصيلة النمور الرعناء، لكنه تسلل زوراً وبهتاناً وانضمَّ إلى فصيلة الإنسان، وأشهد أن أبويه لم يربياه على الآيس كريم والجاتوه – جلس ليله كلّه أمام عنبر العراقيين وهو يصرخ عليهم من تحت الباب بكلمات غير صالحة للنشر، تترجمها «ام بي سي 2»: أيها الحمقى.
أيام ما أجملها، وما أجمل تعليق اللواء متولي، المسؤول عن أمن الطلبة، على عذرنا الذي لا يتغير عند سؤاله لنا عن أسباب انتفاخ شفاهنا وتغيّر ألوان عيوننا بعد الخناقة: «تزحلقنا على السلم»، إذ قال غاضباً: «ايه حكاية الزحلقات الجماعية دي؟ في ايه، دي سلالم والا قشر موز».
الشاهد في الموضوع، هو ما أثاره أحد الطلبة العراقيين، وهو الرجل الشهم، عمّار الدوري، الله يمسيه بالخير إن كان لايزال ينبض، عندما قال لنا ذات جلسة صلح: «فرْد سؤال دا يشاغلني، بدون زعل، انتو كويتيين أكيد، لوو مِنّا ومِنَا؟»، وعندما استغربنا سؤاله، صعقنا بإجابته: «هسّه اللي نعُرفه إن الكويتيين جبناء يشردون من فأر، كل الناس تحجي عنكم هيج، بس انتو ابتليتوا الكلية بمشاكلكم، والكلّ دا يتفاداكم، المصريين والتنزانيين والسودانيين، واحنا العراقيين حارّين هواية، وصرنا قوالب ثلج مقارنة بيكم».
لاتزال كلمة عمار ترن في أذني، يعززها ويؤكدها بعض ما يذكره الأصدقاء عن سمعة الكويتيين عند العرب، خصوصاً في الدول السياحية، وكيف أننا جبناء شردان (مفردها شرود، أي سريع الفرار). وبعدما أربط ما تقدمه الكويت للعراقيين وما يقدمونه هم إلينا من تحرشات واستفزازات، تزول دهشتي، فأصدّق أقوال القوّالين. ليأتي بعد ذلك «لاريجاني» رئيس البرلمان الإيراني، ويثبت أن «سمعتنا» تجاوزت العرب، وانتشرت في أصقاع الصقيعة، عندما تحدث بيننا بعنجهية ولا عنجهية هتلر أيام عزه، وهدد الآخرين من على أرضنا وبين جمهورنا، وتحت مظلة حكومتنا الصامتة المرتعدة، قبل أن يتصدى له النائب البطل د. فيصل المسلم.
بقيت تركيا، ونحن بانتظار السيد أردوغان، كي يمردغنا ويجرّب ملمس قفانا المخملي، ويغادر بمثل ما استُقبل به من حفاوة وتكريم… ورحم الله صاحب المثل: «الخوف ما نجّا الحبارى من الطير». والطير هو الصقر في لهجة أهل البادية، والحبارى هي الكويت.