محمد الوشيحي

وشاحيات: بين البر والبحر

للعلم والخبر، العنوان «وشاحيات» من اختيار الزميل صالح الشايجي الذي يتعامل مع المفردات كما يتعامل مدرب السيرك مع حيواناته الأليفة، فبغمزة عين من صالح تقفز حروف الجر فوق الكراسي، وبصرخة غضب منه تبرك حروف العلة على رُكَبها، وبضربة سوط يرتفع الفاعل من تلقاء نفسه وينفتح المفعول به، وبالجزمة القديمة يُسكّن المتحرك ويحرّك الساكن، على وقع تصفيق جمهور القراء وإعجابهم.

«وشاحيات» هو عنوان لاستراحات المخ، وهو للمواضيع الخارجة عن السياسة الداخلة في الهلوسة. وقد تكون الاستراحة عن موضوع واحد وقد تكون عن مواضيع عدة، بحسب الريح، ولن ألتزم فيها بموعد نشر ولن أعلق من أجلها روزنامة، فمتى ما هبّت عواصف اللوثة وداهمتني شياطين الهلوسة، أوكلت أمري إلى الله، وفتحت الورقة وامتشقت القلم ونشرتها على البلكونة للمارة وعابري السبيل ومن في قلبه مرض.

وفي الرسومات الكاريكاتورية سأتكئ على كتف الزميل الجزائري الفنان عبدالقادر أيوب، وعسى ألا يغافلني ويحرك كتفه فأسقط على خشمي. وإن فعلها فسأكشف للناس أنني لا أتفاهم معه إلا بالإشارة المجردة، توفيراً للوقت والجهد، وأحيانا أعجز عن التعبير والشرح بالاشارة فأتوكل على الله وأرقص له وأهزهز حواجبي، ومن له حيلة فليحتل. استيراد وتصدير

البحر للتصدير والبر للاستيراد، هي هكذا. فعندما تتزاحم الهموم والأحزان في قلبك، ويصبح لديك فائض من الدموع والآلام، تحمل شحنتك وتتجه إلى البحر لتفرغها هناك، فيلتقطها البحر منك ويدفنها في قيعانه، هناك بجانب الشعاب المرجانية وبقايا السفن الغارقة وحطام الطائرات الساقطة من علٍ، كجلمود أخينا امرئ القيس. لذا فأنت «تصدّر» أحزانك من خلال البحر.

في حين أنك عندما تريد التوقف على اليمين في طريق الحياة السريع، لمراجعة نفسك، والتفكير في تغيير محطاتك، والاستعداد للقفز خطوات واسعة إلى الأمام، فستتوجه إلى البر. والبر ملجأ للثوار واللصوص والصعاليك والأحرار، فإليه لجأ عروة بن الورد وتأبط شرّا وامرؤ القيس وسالم أبو ليلى المهلهل وآخرون. ومن اعتاد حضنَ ماما الحنون وصدرها الدافئ فليبتعد عن صحبة هؤلاء الضالين الخارجين على قوانين الأرض، وليذهب إن شاء إلى صالة التزلج، وإن أراد إلى ستار بوكس، فهناك تتوافر الموكا والكابتشينو والهوت شوكليت، بينما العيشة مع امرئ القيس وصحبه تحتاج إلى كفوف أكثر يُبْساً وصلابة من كفوف عمّال البناء، وجلود كجلود الذئاب، وقلوب كقلوب الفهود، ومن دون هذه «المتطلبات» ستقتلك عقربة بنت عقرب، ليس لها قيمة في مجتمع الصحراء.

والصعاليك لا شغل لديهم ولا مشغلة، فهم يتبطحون بين النساء والخمر ونظم الشعر وقطع الطريق، وهم أوفياء بعضُهم لبعض إلى درجة الموت، أو الدرجة التي تعلوها. وهم في الخمر أباطرة، وهم في نظم الشِّعر أساتذة بحجم شاعرنا أحمد الشرقاوي صاحب الروائع الشعرية الخالدة: «جمبلي جمبلولو»، و»آخر بير طفيناه وقلب العدو حرقناه أووو أووو»! وعليّ الطلاق لو استمع تأبط شرّا لقصائد الشرقاوي لخنقه بغترته حتى الموت، ثم لصلبه وأرسل دعوات العشاء إلى الضباع الجائعة. ولو أن عروة بن الورد استمع لمعلقات شاعرنا المبدع «ساهر»، لكَمن له خلف فرع البنك الوطني، ولاختطفه، ولقتله عضّاً ورفساً وشلّوتاً وبكساً.

امرؤ القيس وتأبط وأصحابهما استقوا الجزالة من البر والفضاء المفتوح، فالبَر ملهم، وقد سمعت أن رجل الأعمال السعودي «الراجحي»، ولا أعرف اسمه الأول، كان يصطحب أبناءه وإخوته إلى برّ قرب الرياض، فيجلسون على حصيرة ويتدارسون صفقاتهم ويتخذون قراراتهم الحاسمة والمهمة. أما البحر فمكب نفايات الأحزان، وهو مخلوق لذلك، وهو يحمل على أكتافه أحزاننا، ويخبئ العشاق عن أعين المتطفلين والدراويش، ويستمع لكل ذي شكوى ضعيف. ولو كان الأمر بيدي، لنصحت جامعة الدول العربية بأن تعقد اجتماعات القمم العربية على شاطئ البحر، توفيراً للمصاريف، ومن الزعماء للبحر مباشرة.

وأهل البحر يعمرون الأرض، بينما أهل البر يدمرونها، فالبرّي لا بيت له، وهو يقطع الفيافي والقفار وبحار الرمال من دون علاوة طريق، ويمر بجانب النمور، ويسمع عواء الذئاب وزئير الأسود ولا يتقاضى علاوة خطر. أما البحري فحياته «آب آند داون» بلُغة الطيارين والمضيفين، أي أنه يتعامل مع البحر بسياسة اخطف واجرِ، فهو يغزو البحر في فترات محددة من السنة ثم يعود بسرعة يلهث فرحاً بسلامته، وتقام لعودته الأفراح والليالي الملاح، وهو في غزوته لا ينزل البحر إلا في فترات قليلة، وقد لا يلامس جسمه البحر إذا كانت رحلته تجارية. إذاً علاقته بالبحر ليست ودية وليست على ما يرام، بينما البري يعشق الرمل حتى الثمالة والخبالة، وهو إذا استبد به الغرام، اختطف معشوقته وأردفها خلفه على الحصان وانتحى مكاناً قصيّاً و»جلس معها على الرمل»، وهو إذا ضاقت عليه قلوب أهله، انتحى بعيداً و»جلس على الرمل»، وراح يخط بعصاه ويغني و»يهيجن ويجرّها سامرية»، أما البحري ورغم عشقه للماء، فإنه ينظر إليه من اليابسة أو من سطح المركب، ولا يلامسه إلا عند الضرورة أو لدواعي الخطف، خطف السمك والربيان أو خطف اللؤلؤ والمرجان. لكنه أحيانا قد يدلدل رجليه في البحر، رجليه فقط.

هات وخذ وعنعنة

وأهل البحر أكثر ثقافة واطلاعاً من أهل البر، وأكثر تقبلاً للثقافات الأخرى، فعقل الانسان البحري مفتوح بلا أبواب، بينما عقل الانسان البري مغلق بالثلاثة. والبري أقرب إلى الدروشة من البحري، ويا ويلك ويا سواد ليلك إذا حدثت البري في أمرٍ لم يسمعه من أبيه، إنك إذاً صبئت، وفسقت، وفقست، ووجب سلقك. وسيتحدث معك البحري عن أستراليا كما يتحدث عن المقوع، فهو مطّلع، وكثير الترحال، وهو يأخذ ثقافة ويعطي ثقافة، بينما سيحدثك البري بأسلوب «العنعنة»، عن والدي عن خالي عن جدي الأكبر سفيان بن خرطان، أن مَن خرج عن شور أبيه فستلدغه عقرب وسينطحه تيس، وعندما تسأله: وأين رأيك أنت يا كوبان بن خيبان؟ سيذبح لك كبشاً ليُريك رجولته، فهو يقوى على الكباش، ولا يقوى على مناطحة الحياة، ولا مصارعة الثيران ولا الحيتان، وهو وإن كان أرذل القوم في عصره الذي يعيشه لكنك ستجده أكثرهم فخراً واعتداداً بنفسه.

بين العصر والمغرب

و»العظيم» بين أهل البحر، هو من يأتي بالجديد، جديد الثقافة، جديد العلم، جديد اللباس، جديد الفن، أيّ جديد، بينما «العظيم» بين أهل البر، هو من «يحافظ» على القديم، فثقافته هي ذاتها ثقافة جده التاسع عشر، لذا تجدها بالية، متهتكة، مرقّعة كما جلابية درويش الموالد، لا تصلح للعصر الذي هو فيه، يضحك الناس عليها وعليه، ولكنه سعيد، فهو «ضامن» الجنة، أو هكذا يظن، ولا شيء آخر يهم، وقد أوصاه جدّه وصية واحدة فقط لا غير: «المرأة مثل الشاة، إذا تركتها وحدها أكلها الذئب، فانتبه لشياهك»، لذا فهو لا يهمه إلا أن يحفظ شياهه، التي هي نساؤه، فهذا هو المجد، وهذا هو الشرف الذي لا يفوقه شرف، والخليجي البري والبحري- وهذه صفة يتفق فيها الاثنان – يرى أن الشرف موجود في أفخاذ الشياه، أو النساء، ويأتي الأجنبي الغربي الأحمر الأشقر فيحتل بلد صاحبنا بتاع الشياه، فلا يغضب ولا يقاوم، ليش؟ لأن المحتل الأحمر لم يمس الشرف، الذي هو في مكان حساس معلوم، ويدوس الأجنبي الأشقر بحذائه على صدغه، فيقول صاحبنا وهو تحت الحذاء: افعل ما بدا لك طالما لم تقترب من شرفي! فيصفق له الأجنبي وهو يكتم ضحكته: «كم يبهرني شرفك».

التجارة والرفق بالحيوان

وأهل البحر أكثر جشعاً من أهل البر، فهم لا يكتفون بحاجتهم من الأسماك، بل يبيعونها ويتاجرون بأرواحها، في حين يكتفي البرّي بما يسد رمقه ورمق أسرته، فهو لن يقتل غزالاً كي يبيعه، ولن يتاجر بالأرانب والجرابيع، وهو يؤمن بالأفكار هذه قبل ظهور جمعيات الرفق بالحيوان، وقبل العمّة بريجيت باردو، أو «بي بي» كما يدلّعونها في الغرب. وعلى طعم سالفة «بي بي»، أتذكر أثناء الدراسة الجامعية في مصر عندما سأل الدكتور أحد الطلبة عن الرمز «بي بي»، وهو اختصار لمادة كيميائية اسمها «بلاك باودر»، أي المسحوق الأسود الذي يُستخدم في حشو القنابل والمتفجرات، أجابه زميلنا ببراءة: «بريجيت باردو»، فسحبَ الدكتور شخرة طويلة من هنا إلى هناك، وصرخ في وجه صاحبنا: بريجيت باردو مين يا روح أمك! ثم التفت إلينا وقال بغضب: سأحشو الـ»بي بي» في مناخير هذا الأهبل وسأشعلها لأرتاح من غباء أمه.

لكن ليس أجمل من أن تتعامل مع البر والبحر، أي أن تكون ذا قلبين وعقلين، فأنت مثقف مرهف الإحساس، عقلك مفتوح للنسائم العابرة، تفكر في التعمير والتجارة، وفي الوقت ذاته أنت شجاع لا تبدّل مواقفك خوفاً من سيف العشماوي أو طمعاً في تفاح البستاني، وتمتلك من الفصاحة ما يقيك البرد ويطعمك من جوع ويؤمِنك من خوف ويسمح لك بمجالسة عروة بن الورد.

بريمان

والبري أذكى بكثير من البحري، لكنه أقل منه ثقافة، فثقافته جامدة يستقيها من محيطه القريب المشابه له، فلا جديد في الأمر. وإذا تعامل البري مع البحر فستكون كارثة ولا تشيرنوبل، وستسخن حناجر النساء بالعويل والنواح. وقد نقل لي كبار السن أن جدي لأمي رحمه الله – الذي أحمل اسمه الكامل، محمد الوشيحي، والذي يُكنى «بريمان» – برّي من الطراز الفاخر، شجاع تهابه الصحراء والظلمة، أرعن، تمرّ قبائل الجن بجانبه فـ»تبسمل» وتقرأ آية الكرسي وتسير على أطراف أصابعها قبل أن تعض أسفل ثيابها بأسنانها وتهرب لتنجو بنفسها، صادق كالسيف، سريع القرار كلمعة البرق، كريم كالمطر، عنيد ولا حظ الفقير، صبور ولا البعير، يتخذ الإجراء ثم «يحلّها الحلاّل»، آراؤه تُدخلك في جسر الدائري الخامس بإذن الله، لا يعترف بـ»دراسة الجدوى»، ولا يحترم كليات التجارة ولا الاقتصاد، وهو يأبى أن يتبع أحداً أو يعمل لمصلحة أحد، ولو أنه يعيش معنا وبين ظهرانينا لاستدعاني ونصحني بوقار: «اقتل صاحب الجريدة محمد الصقر، واستحوذ على جريدته يا رخمة»، وكنت سأطيعه وسأنفذ أوامره، مكرهاً أخاك لا بطل، معلش يا بوعبدالله. المهم، هذا البريمان العظيم متمرد في تكوينه، وكان قد قتل أحدهم، فغضب عمّه عليه، عمه هو لا عم القتيل، فهرب من عمه إلى اليمن، وهناك قتل يمنياً، فطاردته قبيلة اليمني، فهرب إلى «العين» في الإمارات، ثم لجأ إلى العراق، فتقاتل معهم، وهكذا، ويبدو أن مشكلة التزايد السكاني كانت ترهقه، فكان الحل الوحيد المتاح هو القتل لتخفيف الزحمة.

وبعد أن استقرت الدول والأنظمة في المنطقة، واستقرت به الأمور، لم يجد أحداً يغزوه، فقرر غزو البحر، بشرط أن يكون هو «النوخذة»، ويا سلام لو أمكنه ركوب البعير فوق ظهر المركب، لكانت ليلة جميلة. ونسيت أن أشرح لمن لا يتحدث الخليجية أن كلمة «النوخذة» تعني القبطان. وبالفعل، استأجر بريمان مركباً و»تنوخذ» واستعان بمجموعة من الأقارب والمعارف السعداء الحظ، وكان بريمان ذا خبرة بحرية تسعفه إلى حد ما، أما البقية فتعرفوا على البحر وهم بين أمواجه، وأظن أن رحلتهم كانت إلى الهند، ويبدو أن القبطان العظيم لم يكن يبحث عن اللؤلؤ ولا يفكر في استيراد الأخشاب والبهارات من الهند، بل كان يفكر في غزو الهنود والاستيلاء على جِمالهم، ليحملها معه على ظهر المركب إلى جزيرة العرب والمسلمين، فهذه صنعته التي يجيدها، فهو أحد أشهر قطّاع الطرق في الجزيرة العربية في العهد المتأخر، لكنه للأمانة لم يكن ليأخذ أبقارهم غنيمة، ليس تعففاً، بل لأنه يجهل ماهية الأبقار ويجهل طريقة التعامل معها، كان سيحدق فيها قليلاً ثم يقتلها، كي لا يشغل دماغه بها. المهم، خاض النوخذة وبحارته غمار البحر، وما هي إلا أيام حتى شاع الخبر: «المركب طبع»، أي غرق، وبعض البحارة راحوا طعام أسماك، ونجا هو كعادته، إلى أن مات – معمّراً – موت فراش في المستشفى الأميري، إن لم تخني الذاكرة، رغم كل الحرائق التي أشعلها والجرائم التي ارتكبها والمعارك التي خاضها. واعتبرت قبائل الجن يوم موته يوماً وطنياً، لاتزال تحتفل به كل عام. رحمة الله عليه، مات قبل أن يأخذ ثأره من البحر.

قفل الباب

روعة البر أنه سيستقبلك وحدك إذا رفضك المجتمع أو رفضته، بينما البحر لن يفعل. وهل سمعت عن صعلوك يعيش في البحر وحده؟. والبحري يفكر في نفسه أولاً ثم في من حوله، كما هي تعليمات مضيفة الطائرة: «لا تساعد أحداً على ارتداء كمّام التنفس قبل أن ترتدي كمّامك»، بينما البري يفكر في أقاربه وينسى نفسه، فكل ما لديه من تفكير سيبعزقه على أقاربه وأبناء قبيلته. 

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *