حقيقة، لم أكن أتوقع أن مسألة «التلبّس»، أو حكاية الجني النذل الذي يتسلل إلى جسم الإنسي ويتلبّسه، تحظى عند البعض بقدسية، ويدافعون عنها أكثر من دفاعهم عن مصالحهم ووظائفهم ومستشفياتهم وشوارعهم ومدارسهم، إلا بعدما «تلبستني» ردود أفعال عنيفة على مقالتيّ السابقتين! وأتمنى أن تكون المقالة هذه هي الأخيرة في هذا الموضوع، كي «أسعى في مناكبها» بحثاً عن مواضيع أخرى.
رسائل كثيرة غاضبة، واتصالات أكثر غضباً وعدداً، تلقيتها، ليس فيها رسالة واحدة مقنعة و»تقول أنا بنت أبوي»، باستثناء رسالة واحدة أفحمتني عندما ختمها مرسلها بـ»عتب محب»: «للأسف يا الوشيحي، تقول هذا وأنت ابن حمولة»!، ولم أفهم ما علاقة عدم اقتناعي بالتلبس في كوني ابن حمولة، ولا الفرق بين أن أكون ابن حمولة أو ابن شارع أو ابن مزارع تنتج القطن. ثم إذا كان صاحبنا متديناً، كما هو واضح من رسالته، فما رأيه في الحديث الشريف المروي في مسند الإمام أحمد: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى»، أم أنه يتعامل مع الدين كما يتعامل مع «الكاتالوج»، فيأخذ منه صفحة 14 وصفحة 82 ويترك الباقي.
وأجزم أن الخزعبلات هي التي دمّرت هذه الديرة، وجابت عاليها واطيها، وعودوا بالذاكرة إلى سقوط النائب سيد حسين القلاف عندما هدد ناخبيه بأن يشتكيهم إلى جدته يوم القيامة، فخاف البعض وانتخبه بعد ذلك ونجح، وصار يشرّع لنا ويراقب، ويقرر مصائرنا. وكان الأجدر أن يُحاكم بتهمة «الإرهاب الديني». وبما أن كل دائرة تخرج عشرة نواب، فلنتخيل لو تنافس أحد عشر سيداً في دائرة واحدة، كلهم يدّعون أنهم من سلالة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكل منهم يهدد بأنه إذا سقط فسيشتكي إلى جدته. تعال فكك، ما راح تدري من طقاقك في سويعات الأصيل. ثم لا ننسى أن أي مرشح -من غير السادة- ينافس سيد القلاف سيناله من الهم جانب، لأنه قد يتسبب في سقوطه، وستكون ليلته سودة بإذن الله.
على أن أجمل الرسائل التي تلقيتها كانت من الدكتور محمد العجمي، وهو طبيب حديث التخرج، يهتم بالمسائل الشرعية المرتبطة بالطب، وقد شغلته حكاية «التلبس» فركّز جهوده عليها واكتشف أنها خرافة، وساق الأدلة، وقال إنه بحث في معنى كلمة «المس» التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، فتبين له أن «المس»، في اللغة، هو أقل درجات «اللمس»، وبالتأكيد لا يصل إلى مرحلة «التلبس» الكامل. وقال إنه لم يروَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أي شيء في هذا الخصوص.
ثم شرح الدكتور طبياً حكاية «الصرع»، وكيف أنه عبارة عن خلل كهربائي في المخ، ولا علاقة له بالجن، وذكر أن للصرع علاجاً ليس بالضرب ولا الكي ولا ما شابه، بل بالأدوية والعلاج النفسي السلوكي. ثم أحالني والمهتمين إلى رئيس قسم الطب النفسي في كلية الطب-جامعة الكويت، الدكتور عادل الزيد، الذي «يحرج أي شنب وأي لحية عند النقاش في هذا الموضوع».
وهنا أتمنى على الزملاء في هذه الجريدة استضافة الدكتور عادل الزيد ليناظر كل من يمتلك دليلاً على «التلبس»، من مشايخ السنة والشيعة، كي نخرج بفائدة، وكي يعرف الناس أن سبب تدهور بلدهم هو هذه الخزعبلات والخزعبليون. وأزعم أنه لو تم فضح هذه الخزعبلة لانفرط عقد بقية الخزعبلات، ولتناثرت كما حبات المسبحة على البلاط الحاكم، ولسقط حسين القلاف في الانتخابات.