كل شيء يتحرك في هذا البلد الميت إلا الحياة والليبراليين، أو الوطنيين كما يسمّون أنفسهم، وكما نسميهم نحن أيضاً بعد الغمز بعيننا اليسرى.
لكن دعك من الحديث عن الليبراليين الذين تلخبطت ألوانهم بعدما تطفل عليهم المتطفلون، حتى إن الكاتب والمحامي المعمم بلا عمامة آية الله صار يتحدث باسمهم، وتعال اجلس بجانبي واطلب فنجان قهوة كي يروق مزاجك فنتحدث عن محاسن «كتلة العمل الوطني»، التي اختفت عن شاشة الرادار وشاعت أنباء عن سقوطها في أعماق الأطلسي.
ولو أن «كتلة العمل الشعبي» هي التي اختفت، لانتشرت كرنفالات الشماتة في الشوارع ولا كرنفالات جنيف، ولتطايرت الألعاب النارية في الفضاءات، ولتوزّع المهرجون بأنوفهم الحمراء في الساحات، لكن المختفي، لسواد الحظ، هو التكتل الوطني، التلميذ المؤدب الذي يفرق شعره من الجنب، ويجلس على أول كرسي مواجه للمدرس، ويضع يده على خده، اسم الله عليه، وتكسو وجهه حمرة الخجل عند الحديث عن أي موضوع غير الجنسية والقروض ومحاربة التدين السياسي.
قيل إنها، أي الكتلة، شوهدت في ميدان الطرف الأغر، في لندن، تنثر الحب للحمام، ويتبادل أعضاؤها الصور بينما يحطّ الحمام فوق أذرعهم ورؤوسهم. الربع ماخذينها سياحة. وقيل إن أعضاءها يتوجهون في يوم الأحد من كل أسبوع إلى الـ»هايد بارك» كي يتذكروا أمجادهم، أو أمجاد آبائهم وأمجاد «هنري الثامن»، ذي الميول الليبرالية، الذي انتزع هذه الحديقة من قبضة الكنيسة وفتحها أمام طبقات الشعب. الله على ماضيهم ما أجمله، الله على تاريخهم ما أنصعه، وسبحان من يخرج الميت من الحي.
أحد شبّانهم المتحمسين سأل الراحل الكبير نزار قباني عن الكتلة فأجابه على أنغام الناي الحزين: «ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان، وستسأل عنها موج البحر وتسأل فيروز الشطآن، وسترجع يوماً يا ولدي مهزوماً مكسور الوجدان، وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان».
يا ولدي، مات حمود الزيد الخالد وعبدالعزيز الصقر وسامي المنيس وآخرون رحمهم الله، وابتعد الدكتور أحمد الخطيب وجاسم القطامي وآخرون، فعن أي كتلة «وطنية» تتحدث؟ الأحاديث الآن تدور عن «كتلة العقلاء»، وهي «كتلة قابضة» يندرج تحت سطوتها كل من يخاف على كرسيه، عضوها المنتدب النائب عبدالسلام النابلسي. تخيل، عقلاء بزعامة النابلسي! من المجانين إذن؟ يا ولدي، صدقني لو أن الجاهل الصغير نجح في الانتخابات لكان الآن عضواً في كتلة العقلاء. يا ولدي كان آباء الكتلة في الماضي يخصصون اثنين من أشد جنودهم بأساً وأكثرهم سواداً كي يقفا برمحيهما أمام باب الدستور وحقوق الناس، يتحققان من هوية كل من يريد الدخول، ويرعبان كل من تسوّل له نفسه اقتحام الحصن، لكن الجنديين سقطا منذ أصبح همّ «أربابهما» البقاء على الكراسي وبناء العوائق أمام كتلة العمل الشعبي، فقط.
يا ولدي، خلاص، صدقني خلاص، كان الليبراليون إعصاراً يسحب خلفه أمطاراً، فأصبحوا خيط دخان… الفاتحة.