محمد الوشيحي

خيط دخان

كل شيء يتحرك في هذا البلد الميت إلا الحياة والليبراليين، أو الوطنيين كما يسمّون أنفسهم، وكما نسميهم نحن أيضاً بعد الغمز بعيننا اليسرى.

لكن دعك من الحديث عن الليبراليين الذين تلخبطت ألوانهم بعدما تطفل عليهم المتطفلون، حتى إن الكاتب والمحامي المعمم بلا عمامة آية الله صار يتحدث باسمهم، وتعال اجلس بجانبي واطلب فنجان قهوة كي يروق مزاجك فنتحدث عن محاسن «كتلة العمل الوطني»، التي اختفت عن شاشة الرادار وشاعت أنباء عن سقوطها في أعماق الأطلسي.

ولو أن «كتلة العمل الشعبي» هي التي اختفت، لانتشرت كرنفالات الشماتة في الشوارع ولا كرنفالات جنيف، ولتطايرت الألعاب النارية في الفضاءات، ولتوزّع المهرجون بأنوفهم الحمراء في الساحات، لكن المختفي، لسواد الحظ، هو التكتل الوطني، التلميذ المؤدب الذي يفرق شعره من الجنب، ويجلس على أول كرسي مواجه للمدرس، ويضع يده على خده، اسم الله عليه، وتكسو وجهه حمرة الخجل عند الحديث عن أي موضوع غير الجنسية والقروض ومحاربة التدين السياسي.

قيل إنها، أي الكتلة، شوهدت في ميدان الطرف الأغر، في لندن، تنثر الحب للحمام، ويتبادل أعضاؤها الصور بينما يحطّ الحمام فوق أذرعهم ورؤوسهم. الربع ماخذينها سياحة. وقيل إن أعضاءها يتوجهون في يوم الأحد من كل أسبوع إلى الـ»هايد بارك» كي يتذكروا أمجادهم، أو أمجاد آبائهم وأمجاد «هنري الثامن»، ذي الميول الليبرالية، الذي انتزع هذه الحديقة من قبضة الكنيسة وفتحها أمام طبقات الشعب. الله على ماضيهم ما أجمله، الله على تاريخهم ما أنصعه، وسبحان من يخرج الميت من الحي.

أحد شبّانهم المتحمسين سأل الراحل الكبير نزار قباني عن الكتلة فأجابه على أنغام الناي الحزين: «ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان، وستسأل عنها موج البحر وتسأل فيروز الشطآن، وسترجع يوماً يا ولدي مهزوماً مكسور الوجدان، وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان».

يا ولدي، مات حمود الزيد الخالد وعبدالعزيز الصقر وسامي المنيس وآخرون رحمهم الله، وابتعد الدكتور أحمد الخطيب وجاسم القطامي وآخرون، فعن أي كتلة «وطنية» تتحدث؟ الأحاديث الآن تدور عن «كتلة العقلاء»، وهي «كتلة قابضة» يندرج تحت سطوتها كل من يخاف على كرسيه، عضوها المنتدب النائب عبدالسلام النابلسي. تخيل، عقلاء بزعامة النابلسي! من المجانين إذن؟ يا ولدي، صدقني لو أن الجاهل الصغير نجح في الانتخابات لكان الآن عضواً في كتلة العقلاء. يا ولدي كان آباء الكتلة في الماضي يخصصون اثنين من أشد جنودهم بأساً وأكثرهم سواداً كي يقفا برمحيهما أمام باب الدستور وحقوق الناس، يتحققان من هوية كل من يريد الدخول، ويرعبان كل من تسوّل له نفسه اقتحام الحصن، لكن الجنديين سقطا منذ أصبح همّ «أربابهما» البقاء على الكراسي وبناء العوائق أمام كتلة العمل الشعبي، فقط.

يا ولدي، خلاص، صدقني خلاص، كان الليبراليون إعصاراً يسحب خلفه أمطاراً، فأصبحوا خيط دخان… الفاتحة. 

احمد الصراف

كفن تورين.. و«دفناه سوا»

ورد في المصادر التاريخية، ان قطعة قماش من الكتان تم اكتشافها في عام 544 ميلادية في مدينة أديسا، واعتقد وقتها أنها ربما تكون الكفن الذي لف به جسد السيد المسيح عند دفنه بعد صلبه، وما عزز ذلك الاعتقاد، وفق المصادر التاريخية، ان قطعة القماش تلك تظهر، بطريقة غريبة، وجه وجسد انسان، وملامح الوجه تشبه ما روي عن ملامح المسيح، كما وجدت آثار دماء على الكفن مما اكد الرواية اكثر، وكانت تلك بداية واحدة من اكثر القصص اثارة عن المسيح ومعجزاته، كما اصبحت تلك القطعة الاكثر قدسية وتبجيلا طوال قرون. وورد في المصادر التاريخية كذلك ان ملوكا وقادة عسكريين واباطرة وباباوات تنافسوا حتى الموت على اقتناء هذا الاثر المقدس والعظيم. ونقل في اغسطس 944 عنوة إلى القسطنطينية، عاصمة الامبراطورية البيزنطية، حيث تم التأكد من حقيقة كونه كفن المسيح، وان اللطخات التي تظهر عليه هي بالفعل دم انسان! كما توالت التأكيدات من جهات مختلفة على مر السنين بصحة ما قيل عن حقيقة الكفن، واصبح هناك اعتقاد راسخ بأنه كفن السيد المسيح والدم دمه والصورة صورته، وانها آخر معجزاته.
مع تغير الممالك وتقلب العصور تقاذفت الايدي كفن المسيح وانتقل من عاصمة إلى اخرى حتى استقر في ايطاليا واصبح يعرف بـ«كفن تورين» ربما نسبة إلى الكاتدرائية التي يحفظ فيها حاليا في ايطاليا منذ عقود طويلة.
ولان الفكر الغربي، وحتى لو كان يمثل عاصمة الكثلكة المتزمتة في العالم، لا يؤمن بالمسلمات، وبسبب مناخ حرية البحث والتطوير الذي تتمتع به شعوب اوروبا، والغرب عموما، وللتأكد من كل ما اثير حول الكفن من اقاويل، فقد وافقت الكنيسة على اخضاع آخر معجزات السيد المسيح للفحص المختبري الكربوني لمعرفة حقيقة الامر، وكانت المفاجأة غير السارة ان الفحص المختبري بين ان قطعة القماش تعود إلى القرون الوسطى وبالتحديد للفترة من 1260 الى 1390 ميلادية، وانها قطعة بالتالي مزيفة اراد صانعها الاستفادة منها ماديا. وقد اكد واحد من اكبر علماء الآثار الايطاليين، نقلا عن وكالة رويترز للانباء، ما توصلت اليه المختبرات من نتائج سلبية، كما عقد مؤتمرا صحفيا بين فيه الكيفية التي ظهرت بها صورة وجه وجسد انسان على قطعة القماش تلك، وان عمرها لا يزيد على 800 عام، وليس 1500 عام، كما كان يعتقد سابقا، وان كل ما دُوّ.ن في «المراجع التاريخية» عن الكفن وقدسيته غير صحيح، وان الجميع عاش في وهم لفترة تقارب الثمانمائة سنة! ويمكن العودة للشيخ «غوغل» لمعرفة مزيد عن تاريخ واحدة من اكثر مقدسات الكنيسة اهمية، والتي ثبت عدم صحة كل ما قيل فيها وعنها.
ما قام به علماء الغرب وما اقدمت عليه مختبراتهم يوضح بطريقة لا تقبل الجدل كم هو كبير الفارق بين الامم الحية وغيرها المغيبة. فقبل 30 عاما وقعت احداث شغب عنيفة في احد اسواق مدينة مومباي الهندية، اثر سريان اشاعة عن قيام البعض بسرقة شعرتي النبي المحفوظتين في احد مساجد المدينة! وقبل ان يتبين عدم صحة الخبر كان 200 شخص بريء ومسالم، وأغلبيتهم من الهندوس، قد فقدوا حياتهم، واحرقت عشرات المتاجر والمركبات، وطالت اعمال الشغب اكبر مدن الهند لساعات عدة!
وفي هذا السياق، توجد في متاحفنا، وبالذات في تركيا، مجموعات كبيرة من السيوف والتروس والعمائم والخفف، او النعال، التي يعتقد انها تعود في أغلبيتها لزمن النبوة والخلافة! ولكن بالتمعن في اشكالها وحالتها غير السيئة، وتاريخنا الذي لا يؤمن اصلا بالآثار بسبب طبيعة المنطقة وامور كثيرة اخرى، تجعل من الصعب الايمان بصحة ما يشاع عن اعمار وتاريخ أغلبية هذه الآثار، وربما يكون عامل المتاجرة بعواطف المؤمنين وراء تلك الادعاءات، التي ليس من السهل التأكد من صحتها في ظل غياب تام لاي تدقيق او تمحيص عن حقيقة اعمارها او مصادرها. كما اننا على غير استعداد لاخضاع كثير من الاماكن المقدسة من اضرحة ومقامات للفحص المختبري والكربوني لمعرفة حقيقة ما يثار حولها من اقوال. فنحن كنا ولانزال سعداء بما نعتقد ولا نريد ان يعكر صفو حياتنا احد باي اكتشافات قد لا تتفق وامزجتنا وما نؤمن به.

أحمد الصراف

سعيد محمد سعيد

الراقصون في الأفراح والأحزان

 

لم يعد مستغربا أمر الجنود المجهولين الذين يقدمون الغالي والنفيس في اللذود عن حياض الوطن، ويتقدمون الصفوف الخفية (ولتكن الخلفية) إن جاز لنا التعبير، وهم يشمرون عن سواعدهم بفرقعات وشعارات وسلالم مجد من ورق في ادعاءاتهم بأنهم إنما يقدمون كل ذلك العمل الوطني الجبار من أجل دين الله ومن أجل الوطن ومن أجل ولاة الأمر.

لم يعد أمر نشاطهم مستغربا خصوصا مع حدوث أي صورة من صور الإنفراج في البلاد؟ لكن ما يثير الإستغراب فعلا، أن أولئك المدعومين من قبل من أطلقوا على أنفسهم نشطاء سياسيين أو اجتماعيين أو حتى المدعين على الدوام بأنهم جنود للوطن ممن يصعدون على المنابر ويطلقون الخطب العصماء الهوجاء في آن واحد، أننا نجدهم في حالة رقص دائم في الأفراح والاحزان! حتى أن الحدث التاريخي المهم بالإفراج عن معتقلي كرزكان يوم أول أمس (الثلثاء)، والذي يؤكد نزاهة القضاء البحريني، جعلهم ينشطون بصورة غير طبيعية في المجالس وفيما بين بعضهم البعض، مستندين على ثلاثة مواقع الكترونية مشهورة بأهدافها الفتنوية في المجتمع… لكن رقصهم هذه المرة، ليس ككل مرة… ففيه من الإساءة الى الدولة والى الحكومة والى قضائها الشيء الكثير…

إنهم يرون أن كل من يدخل السجن بتهمة التخريب والتحريض على كراهية السلطة، لابد وأن يصدر الحكم (بإعدامه)! وإن صدر حكم القاضي ببراءة متهم، فإن التنكيل هنا والغمز واللمز والطعن… يجب أن يتوجه الى القضاء، وما يلبث هذا الطعن أن يتحول من أولئك الذين عهدناهم دائما يرفعون شعار طاعة ولي الأمر كذبا ورياء ونفاقا مقيتا، الى أقوال من قبيل: «على البحرين السلام»… أو من قبيل: «رضوخ الحكومة لتهديدات الإرهابيين»، وربما تمادوا أكثر ليدعوا الطائفة الأخرى إلى النزول وافتعال الحرائق والتخريب لكي تتم الإستجابة لمطالبهم.

ظهيرة يوم الثلثاء الماضي كانت مفعمة بالفرح والسرور والثناء على القضاء ونزاهته، وكنا نرى المعارف والزملاء من الطائفتين الكريمتين يعبرون عن فرحهم لا لأن (إرهابيا) نفذ بجلده من العدالة، بل لأن هناك قضاء عادلا نزيها قال كلمته الفصل بكل عدالة، وهو جهاز يأتي على رأس مجلسه جلالة الملك الذي يمثل (ضمير الأمة قطعا)، والراعي المسئول عن رعيته الحاكم بالعدل الرافع للظلم عن كل من وقع عليه ظلم… لكن ذلك بالنسبة لدى البعض كيل بمكيالين! فترتفع أصوات منكرة لتقول: إذا صدر الحكم في صالح الإرهابيين قلتم أن القضاء نزيها، وإذا صدر حكم بالسجن والعقوبات قلتم أن القضاء ليس نزيها… كل ذلك لا يهم، طالما نحن في رحاب دولة قانون ومؤسسات.

ومن قال أن من تثبت عليهم تهم التخريب والتحريق والإرهاب يجب أن يطلق سراحهم ليمشوا ساخرين من القانون؟ ومن قال أن من تثبت عليهم تهمة (قتل نفس) يجب أن يخرج مرفوع الرأس؟ مرارا وتكرارا، طرحت في هذه الزاوية، وطرح غيري من الزملاء في أعمدتهم، موضوعات انتقدت بشدة أفعال التحريق والتخريب وتدمير الممتلكات العامة والخاصة والإضرار بالقرى، والتحريض على كراهية النظام وكراهية المجتمع بأكمله، وحذرنا الشباب من كل ذلك، لكن من الإعتبار لكل الممارسات المطلبية السلمية القانونية التي لا يمكن قمعها أبدا وقد منحها الدستور للناس.

سينشط الراقصون في الأفراح والأتراح، لكن لن يجدوا لهم آذانا صاغية… فقط لننتظر قليلا.