محمد الوشيحي

وشاحيات: بين البر والبحر

للعلم والخبر، العنوان «وشاحيات» من اختيار الزميل صالح الشايجي الذي يتعامل مع المفردات كما يتعامل مدرب السيرك مع حيواناته الأليفة، فبغمزة عين من صالح تقفز حروف الجر فوق الكراسي، وبصرخة غضب منه تبرك حروف العلة على رُكَبها، وبضربة سوط يرتفع الفاعل من تلقاء نفسه وينفتح المفعول به، وبالجزمة القديمة يُسكّن المتحرك ويحرّك الساكن، على وقع تصفيق جمهور القراء وإعجابهم.

«وشاحيات» هو عنوان لاستراحات المخ، وهو للمواضيع الخارجة عن السياسة الداخلة في الهلوسة. وقد تكون الاستراحة عن موضوع واحد وقد تكون عن مواضيع عدة، بحسب الريح، ولن ألتزم فيها بموعد نشر ولن أعلق من أجلها روزنامة، فمتى ما هبّت عواصف اللوثة وداهمتني شياطين الهلوسة، أوكلت أمري إلى الله، وفتحت الورقة وامتشقت القلم ونشرتها على البلكونة للمارة وعابري السبيل ومن في قلبه مرض.

وفي الرسومات الكاريكاتورية سأتكئ على كتف الزميل الجزائري الفنان عبدالقادر أيوب، وعسى ألا يغافلني ويحرك كتفه فأسقط على خشمي. وإن فعلها فسأكشف للناس أنني لا أتفاهم معه إلا بالإشارة المجردة، توفيراً للوقت والجهد، وأحيانا أعجز عن التعبير والشرح بالاشارة فأتوكل على الله وأرقص له وأهزهز حواجبي، ومن له حيلة فليحتل. استيراد وتصدير

البحر للتصدير والبر للاستيراد، هي هكذا. فعندما تتزاحم الهموم والأحزان في قلبك، ويصبح لديك فائض من الدموع والآلام، تحمل شحنتك وتتجه إلى البحر لتفرغها هناك، فيلتقطها البحر منك ويدفنها في قيعانه، هناك بجانب الشعاب المرجانية وبقايا السفن الغارقة وحطام الطائرات الساقطة من علٍ، كجلمود أخينا امرئ القيس. لذا فأنت «تصدّر» أحزانك من خلال البحر.

في حين أنك عندما تريد التوقف على اليمين في طريق الحياة السريع، لمراجعة نفسك، والتفكير في تغيير محطاتك، والاستعداد للقفز خطوات واسعة إلى الأمام، فستتوجه إلى البر. والبر ملجأ للثوار واللصوص والصعاليك والأحرار، فإليه لجأ عروة بن الورد وتأبط شرّا وامرؤ القيس وسالم أبو ليلى المهلهل وآخرون. ومن اعتاد حضنَ ماما الحنون وصدرها الدافئ فليبتعد عن صحبة هؤلاء الضالين الخارجين على قوانين الأرض، وليذهب إن شاء إلى صالة التزلج، وإن أراد إلى ستار بوكس، فهناك تتوافر الموكا والكابتشينو والهوت شوكليت، بينما العيشة مع امرئ القيس وصحبه تحتاج إلى كفوف أكثر يُبْساً وصلابة من كفوف عمّال البناء، وجلود كجلود الذئاب، وقلوب كقلوب الفهود، ومن دون هذه «المتطلبات» ستقتلك عقربة بنت عقرب، ليس لها قيمة في مجتمع الصحراء.

والصعاليك لا شغل لديهم ولا مشغلة، فهم يتبطحون بين النساء والخمر ونظم الشعر وقطع الطريق، وهم أوفياء بعضُهم لبعض إلى درجة الموت، أو الدرجة التي تعلوها. وهم في الخمر أباطرة، وهم في نظم الشِّعر أساتذة بحجم شاعرنا أحمد الشرقاوي صاحب الروائع الشعرية الخالدة: «جمبلي جمبلولو»، و»آخر بير طفيناه وقلب العدو حرقناه أووو أووو»! وعليّ الطلاق لو استمع تأبط شرّا لقصائد الشرقاوي لخنقه بغترته حتى الموت، ثم لصلبه وأرسل دعوات العشاء إلى الضباع الجائعة. ولو أن عروة بن الورد استمع لمعلقات شاعرنا المبدع «ساهر»، لكَمن له خلف فرع البنك الوطني، ولاختطفه، ولقتله عضّاً ورفساً وشلّوتاً وبكساً.

امرؤ القيس وتأبط وأصحابهما استقوا الجزالة من البر والفضاء المفتوح، فالبَر ملهم، وقد سمعت أن رجل الأعمال السعودي «الراجحي»، ولا أعرف اسمه الأول، كان يصطحب أبناءه وإخوته إلى برّ قرب الرياض، فيجلسون على حصيرة ويتدارسون صفقاتهم ويتخذون قراراتهم الحاسمة والمهمة. أما البحر فمكب نفايات الأحزان، وهو مخلوق لذلك، وهو يحمل على أكتافه أحزاننا، ويخبئ العشاق عن أعين المتطفلين والدراويش، ويستمع لكل ذي شكوى ضعيف. ولو كان الأمر بيدي، لنصحت جامعة الدول العربية بأن تعقد اجتماعات القمم العربية على شاطئ البحر، توفيراً للمصاريف، ومن الزعماء للبحر مباشرة.

وأهل البحر يعمرون الأرض، بينما أهل البر يدمرونها، فالبرّي لا بيت له، وهو يقطع الفيافي والقفار وبحار الرمال من دون علاوة طريق، ويمر بجانب النمور، ويسمع عواء الذئاب وزئير الأسود ولا يتقاضى علاوة خطر. أما البحري فحياته «آب آند داون» بلُغة الطيارين والمضيفين، أي أنه يتعامل مع البحر بسياسة اخطف واجرِ، فهو يغزو البحر في فترات محددة من السنة ثم يعود بسرعة يلهث فرحاً بسلامته، وتقام لعودته الأفراح والليالي الملاح، وهو في غزوته لا ينزل البحر إلا في فترات قليلة، وقد لا يلامس جسمه البحر إذا كانت رحلته تجارية. إذاً علاقته بالبحر ليست ودية وليست على ما يرام، بينما البري يعشق الرمل حتى الثمالة والخبالة، وهو إذا استبد به الغرام، اختطف معشوقته وأردفها خلفه على الحصان وانتحى مكاناً قصيّاً و»جلس معها على الرمل»، وهو إذا ضاقت عليه قلوب أهله، انتحى بعيداً و»جلس على الرمل»، وراح يخط بعصاه ويغني و»يهيجن ويجرّها سامرية»، أما البحري ورغم عشقه للماء، فإنه ينظر إليه من اليابسة أو من سطح المركب، ولا يلامسه إلا عند الضرورة أو لدواعي الخطف، خطف السمك والربيان أو خطف اللؤلؤ والمرجان. لكنه أحيانا قد يدلدل رجليه في البحر، رجليه فقط.

هات وخذ وعنعنة

وأهل البحر أكثر ثقافة واطلاعاً من أهل البر، وأكثر تقبلاً للثقافات الأخرى، فعقل الانسان البحري مفتوح بلا أبواب، بينما عقل الانسان البري مغلق بالثلاثة. والبري أقرب إلى الدروشة من البحري، ويا ويلك ويا سواد ليلك إذا حدثت البري في أمرٍ لم يسمعه من أبيه، إنك إذاً صبئت، وفسقت، وفقست، ووجب سلقك. وسيتحدث معك البحري عن أستراليا كما يتحدث عن المقوع، فهو مطّلع، وكثير الترحال، وهو يأخذ ثقافة ويعطي ثقافة، بينما سيحدثك البري بأسلوب «العنعنة»، عن والدي عن خالي عن جدي الأكبر سفيان بن خرطان، أن مَن خرج عن شور أبيه فستلدغه عقرب وسينطحه تيس، وعندما تسأله: وأين رأيك أنت يا كوبان بن خيبان؟ سيذبح لك كبشاً ليُريك رجولته، فهو يقوى على الكباش، ولا يقوى على مناطحة الحياة، ولا مصارعة الثيران ولا الحيتان، وهو وإن كان أرذل القوم في عصره الذي يعيشه لكنك ستجده أكثرهم فخراً واعتداداً بنفسه.

بين العصر والمغرب

و»العظيم» بين أهل البحر، هو من يأتي بالجديد، جديد الثقافة، جديد العلم، جديد اللباس، جديد الفن، أيّ جديد، بينما «العظيم» بين أهل البر، هو من «يحافظ» على القديم، فثقافته هي ذاتها ثقافة جده التاسع عشر، لذا تجدها بالية، متهتكة، مرقّعة كما جلابية درويش الموالد، لا تصلح للعصر الذي هو فيه، يضحك الناس عليها وعليه، ولكنه سعيد، فهو «ضامن» الجنة، أو هكذا يظن، ولا شيء آخر يهم، وقد أوصاه جدّه وصية واحدة فقط لا غير: «المرأة مثل الشاة، إذا تركتها وحدها أكلها الذئب، فانتبه لشياهك»، لذا فهو لا يهمه إلا أن يحفظ شياهه، التي هي نساؤه، فهذا هو المجد، وهذا هو الشرف الذي لا يفوقه شرف، والخليجي البري والبحري- وهذه صفة يتفق فيها الاثنان – يرى أن الشرف موجود في أفخاذ الشياه، أو النساء، ويأتي الأجنبي الغربي الأحمر الأشقر فيحتل بلد صاحبنا بتاع الشياه، فلا يغضب ولا يقاوم، ليش؟ لأن المحتل الأحمر لم يمس الشرف، الذي هو في مكان حساس معلوم، ويدوس الأجنبي الأشقر بحذائه على صدغه، فيقول صاحبنا وهو تحت الحذاء: افعل ما بدا لك طالما لم تقترب من شرفي! فيصفق له الأجنبي وهو يكتم ضحكته: «كم يبهرني شرفك».

التجارة والرفق بالحيوان

وأهل البحر أكثر جشعاً من أهل البر، فهم لا يكتفون بحاجتهم من الأسماك، بل يبيعونها ويتاجرون بأرواحها، في حين يكتفي البرّي بما يسد رمقه ورمق أسرته، فهو لن يقتل غزالاً كي يبيعه، ولن يتاجر بالأرانب والجرابيع، وهو يؤمن بالأفكار هذه قبل ظهور جمعيات الرفق بالحيوان، وقبل العمّة بريجيت باردو، أو «بي بي» كما يدلّعونها في الغرب. وعلى طعم سالفة «بي بي»، أتذكر أثناء الدراسة الجامعية في مصر عندما سأل الدكتور أحد الطلبة عن الرمز «بي بي»، وهو اختصار لمادة كيميائية اسمها «بلاك باودر»، أي المسحوق الأسود الذي يُستخدم في حشو القنابل والمتفجرات، أجابه زميلنا ببراءة: «بريجيت باردو»، فسحبَ الدكتور شخرة طويلة من هنا إلى هناك، وصرخ في وجه صاحبنا: بريجيت باردو مين يا روح أمك! ثم التفت إلينا وقال بغضب: سأحشو الـ»بي بي» في مناخير هذا الأهبل وسأشعلها لأرتاح من غباء أمه.

لكن ليس أجمل من أن تتعامل مع البر والبحر، أي أن تكون ذا قلبين وعقلين، فأنت مثقف مرهف الإحساس، عقلك مفتوح للنسائم العابرة، تفكر في التعمير والتجارة، وفي الوقت ذاته أنت شجاع لا تبدّل مواقفك خوفاً من سيف العشماوي أو طمعاً في تفاح البستاني، وتمتلك من الفصاحة ما يقيك البرد ويطعمك من جوع ويؤمِنك من خوف ويسمح لك بمجالسة عروة بن الورد.

بريمان

والبري أذكى بكثير من البحري، لكنه أقل منه ثقافة، فثقافته جامدة يستقيها من محيطه القريب المشابه له، فلا جديد في الأمر. وإذا تعامل البري مع البحر فستكون كارثة ولا تشيرنوبل، وستسخن حناجر النساء بالعويل والنواح. وقد نقل لي كبار السن أن جدي لأمي رحمه الله – الذي أحمل اسمه الكامل، محمد الوشيحي، والذي يُكنى «بريمان» – برّي من الطراز الفاخر، شجاع تهابه الصحراء والظلمة، أرعن، تمرّ قبائل الجن بجانبه فـ»تبسمل» وتقرأ آية الكرسي وتسير على أطراف أصابعها قبل أن تعض أسفل ثيابها بأسنانها وتهرب لتنجو بنفسها، صادق كالسيف، سريع القرار كلمعة البرق، كريم كالمطر، عنيد ولا حظ الفقير، صبور ولا البعير، يتخذ الإجراء ثم «يحلّها الحلاّل»، آراؤه تُدخلك في جسر الدائري الخامس بإذن الله، لا يعترف بـ»دراسة الجدوى»، ولا يحترم كليات التجارة ولا الاقتصاد، وهو يأبى أن يتبع أحداً أو يعمل لمصلحة أحد، ولو أنه يعيش معنا وبين ظهرانينا لاستدعاني ونصحني بوقار: «اقتل صاحب الجريدة محمد الصقر، واستحوذ على جريدته يا رخمة»، وكنت سأطيعه وسأنفذ أوامره، مكرهاً أخاك لا بطل، معلش يا بوعبدالله. المهم، هذا البريمان العظيم متمرد في تكوينه، وكان قد قتل أحدهم، فغضب عمّه عليه، عمه هو لا عم القتيل، فهرب من عمه إلى اليمن، وهناك قتل يمنياً، فطاردته قبيلة اليمني، فهرب إلى «العين» في الإمارات، ثم لجأ إلى العراق، فتقاتل معهم، وهكذا، ويبدو أن مشكلة التزايد السكاني كانت ترهقه، فكان الحل الوحيد المتاح هو القتل لتخفيف الزحمة.

وبعد أن استقرت الدول والأنظمة في المنطقة، واستقرت به الأمور، لم يجد أحداً يغزوه، فقرر غزو البحر، بشرط أن يكون هو «النوخذة»، ويا سلام لو أمكنه ركوب البعير فوق ظهر المركب، لكانت ليلة جميلة. ونسيت أن أشرح لمن لا يتحدث الخليجية أن كلمة «النوخذة» تعني القبطان. وبالفعل، استأجر بريمان مركباً و»تنوخذ» واستعان بمجموعة من الأقارب والمعارف السعداء الحظ، وكان بريمان ذا خبرة بحرية تسعفه إلى حد ما، أما البقية فتعرفوا على البحر وهم بين أمواجه، وأظن أن رحلتهم كانت إلى الهند، ويبدو أن القبطان العظيم لم يكن يبحث عن اللؤلؤ ولا يفكر في استيراد الأخشاب والبهارات من الهند، بل كان يفكر في غزو الهنود والاستيلاء على جِمالهم، ليحملها معه على ظهر المركب إلى جزيرة العرب والمسلمين، فهذه صنعته التي يجيدها، فهو أحد أشهر قطّاع الطرق في الجزيرة العربية في العهد المتأخر، لكنه للأمانة لم يكن ليأخذ أبقارهم غنيمة، ليس تعففاً، بل لأنه يجهل ماهية الأبقار ويجهل طريقة التعامل معها، كان سيحدق فيها قليلاً ثم يقتلها، كي لا يشغل دماغه بها. المهم، خاض النوخذة وبحارته غمار البحر، وما هي إلا أيام حتى شاع الخبر: «المركب طبع»، أي غرق، وبعض البحارة راحوا طعام أسماك، ونجا هو كعادته، إلى أن مات – معمّراً – موت فراش في المستشفى الأميري، إن لم تخني الذاكرة، رغم كل الحرائق التي أشعلها والجرائم التي ارتكبها والمعارك التي خاضها. واعتبرت قبائل الجن يوم موته يوماً وطنياً، لاتزال تحتفل به كل عام. رحمة الله عليه، مات قبل أن يأخذ ثأره من البحر.

قفل الباب

روعة البر أنه سيستقبلك وحدك إذا رفضك المجتمع أو رفضته، بينما البحر لن يفعل. وهل سمعت عن صعلوك يعيش في البحر وحده؟. والبحري يفكر في نفسه أولاً ثم في من حوله، كما هي تعليمات مضيفة الطائرة: «لا تساعد أحداً على ارتداء كمّام التنفس قبل أن ترتدي كمّامك»، بينما البري يفكر في أقاربه وينسى نفسه، فكل ما لديه من تفكير سيبعزقه على أقاربه وأبناء قبيلته. 

محمد الوشيحي

لكين هوه ما لاقي


ما ممكن، على رأي السودانيين، أن يضحكني أحد كما يضحكني الوزير السابق والنائب السابق ورئيس جمعية حقوق الإنسان (يا عيني) الزميل علي البغلي، عندما يتحدث عن الوطنية ووحدة الصف! أين أنت يا يوسف وهبي الله يرحمك كي تصرخ من أعماق جوفك بصوتك المهيب: «يا للهول».

علي البغلي الذي قسّم مقالاته إلى قسمين، مرة ينتقد المتدينين السنة، ومرة ينتقد نواب القبائل، ويا سلام لو كان النائب قبلياً متديناً، ولا يكثر على الله شيء، سبحانه.

وكم حاول آية الله البغلي، وكم تمنى، أن يجد شيئاً على التيارات السياسية الشيعية، أو المتدينين الشيعة، لكين هوّه ما لاقي (معلش المزاج اليوم سوداني)، شتبونه يسوّي؟ لا أحد منهم يخطئ.

وكلما استمعت إلى فيروز وهي تردد: «حامل هالقصة وداير، داير مندار»، تذكرت صاحبنا البغلي وهو «حامل قصته وداير» ليعرضها على الفضائيات والصحف والسهول والجبال، وقصته هي «لماذا لا ينتقد النائب مسلم البراك مؤسسة التأمينات الاجتماعية؟»، وهو يريد أن يقول إن البراك قبلي، والدليل أنه لا ينتقد مؤسسة التأمينات التي يرأسها أحد أبناء قبيلته.

وهنا تطل شخصانية البغلي برأسها وجسمها ورائحتها النتنة. ولا أدري، ولا أظن أن أحداً غيري يدري، ما هي مخالفات رئيس المؤسسة. وإن كان علي البغلي يعلم عن أي مخالفة في التأمينات، فلماذا يسكت وهو الوزير السابق والنائب السابق والقانوني الذي يعرف الدستور ومواده؟

البغلي يذكرني بشبيهه الدكتور ساجد العبدلي، وكلاهما من فريق واحد ذي هدف واحد، وكلاهما من النوع الأملس الذي «يزلق» من يدك إذا حاولت مسكه. ورغم يقينك أنه غارق في الطين، فإنّ ثيابه «الخارجية» نظيفة براقة. وكلاهما أيضاً يُظهر الوداعة والمسكنة والوطنية، حتى تكاد تبكي وأنت تقرأ له. لكنهما يا للصدفة «شديدا العقاب» على التيارات الدينية السنية، «غفوران رحيمان» على التيارات الدينية الشيعية. وأتذكر جيداً – عندما اتصل بي الزميل ساجد عاتباً بسبب مقالة كتبتها عنه وعن شبيهه البغلي – أنني قلت له: «أنت تعلم، وغيرك أيضاً، كم أخاصم المتدينين الساسة ويخاصمونني، سنتهم وشيعتهم، بينما أنت وصاحبك لا تخاصمان إلا المتدينين السنة، فهل المتدينون الشيعة معصومون؟»، فقال: «كلامك صحيح، لكن صدقني لم يكن هذا عن قصد»! يا سبحان الله. كذلك لم يقصد ساجد مهاجمة التكتل الشعبي دائماً لأنهم خصوم الرئيس، وفي المقابل لم يقصد غض الطرف عن رئيس البرلمان، على سبيل المثال، دائماً أيضاً! هو بَحَثَ عن خطأ ارتكبه رئيس البرلمان، لكين زي ما قولتا ليك هوّه ما لاقي، أو أنه «لاقي» لكنه سها، والسهو له سجدة، وساجد دائماً ساجد.

وكنا، مسلم البراك وأنا وجمع من الأصدقاء نتسامر قبل أيام، فجاء من يخبرنا أن «البغلي الآن على شاشة إحدى القنوات الفضائية، يتحدث عن قصته الأزلية، البراك والتأمينات»، فضحكنا، وقلت للبراك: مبروك، ألف وخمسمئة صوت إضافي، فهجوم البغلي نعمة من الله تستحق ركعتي شكر. وكما افترى عليك الزميل ساجد يا بوحمود وادعى في مقالة له أنك هاتفته، وكما افترى أيضاً عليّ أنا، سيدّعي البغلي عليك وسيفتري بـ»ملاسته» المعهودة، فالباحث عن المنصب الوزاري يفضَّل أن يكون ذا جلدٍ مغمور بالزيت و»يزلق». ولن أستغرب إذا خاض الاثنان الانتخابات المقبلة معا في الدائرة الأولى.

***

في الصفحة قبل الأخيرة من عدد اليوم، أكتب أولى استراحاتي بعنوان «وشاحيات»، وهي الحلقة الأولى من سلسلة استراحات. 

سامي النصف

الإشكالات الحقيقية للحكومة الكويتية

اشكالات الحكومة الكويتية لا علاقة لها بالضرورة بالأشخاص كون البعض منها اشكالات مؤسسية تحتاج الى حلول مؤسسية بالتبعية ومن ذلك فإن فترة اسبوعين لاختيار الوزراء وضرورة عرض برنامج عمل الحكومة مع أول دور انعقاد لمجلس الأمة هي اشكالات دستورية تحتاج بشكل قاطع لتعديل الدستور لإتاحة المزيد من الوقت لانجاز الأمرين بأفضل واحسن صورة.

هناك عدديا 49 نائبا يقابلهم 16 وزيرا وضمن الواقع السياسي الكويتي يقوم النواب الأفاضل بالهجوم المتواصل على الحكومة وتخطئة كل قرار تتخذه وتسويد صورتها أمام المواطنين الكويتيين وما ان تطلب صحيفة أو أحد معدي البرامج الحوارية نائبا للحديث والهجوم على الحكومة حتى يجد العشرات بدلا من الواحد بما في ذلك من دعمتهم الحكومة واشترت الأصوات بأغلى الأثمان لإنجاحهم!

ويفترض حسابيا على الأقل ان يقابل اللقاءات الإعلامية العدائية للنواب 3 لقاءات لوزراء الحكومة (نسبة النواب للوزراء 1:3) وذلك لتعديل الكفة وتوضيح الحقائق ومحاولة كسب الناخبين للصف الحكومي كما يحدث في «جميع» الديموقراطيات الأخرى ولا يحتاج المرء الا الى مشاهدة محطات تلفزة الدول المتقدمة او حتى مصر ولبنان والعراق وغيرها حتى يرى ان هناك دائما وأبدا وزراء ومسؤولين حكوميين يقارعون الحجة بالحجة والقول بالقول والرأي بالرأي.

في الكويت يتم توارث نهج فريد في الديموقراطية هو نهج «الحكومة الصامتة» أبدا فمع تكرار سماع الناس للرأي المعارض دون ايضاح من الحكومة اصبحت هناك قناعات متجذرة لدى المواطنين بأن كل ما تفعله الحكومة خطأ في خطأ وتجاوز في تجاوز، واذا كان المثل العامي يصف السكوت بأنه من ذهب فإن السكوت في علوم السياسة وضمن اصول اللعبة الديموقراطية الصحيحة هو من الغفلة ولا يدل على الحكمة أبدا.

ويعتقد البعض ان صمت الوزراء من رجال الأسرة الحاكمة يحرج الوزراء الآخرين فلا يتحدثون احتراما لهم والمنطق الصحيح يوجب العكس من ذلك تماما فصمت وزراء الأسرة هو امر مطلوب ومحمود كون كثير منهم مشاريع حكم مستقبلية ولا يفضل لهم ان يدخلوا في التنازع والجدل الكلامي الا ان هذا الأمر يستدعي ان يضاعف الوزراء والمستشارون الآخرون أحاديثهم ضمن مفهوم تضامنية الحكومة وواضح ان عدم الحديث يدل اما على عدم القدرة او الرغبة بحماية الذات وعدم التعرض للمشاكل مع النواب.

ومما زاد الطين بلة قيام بعض الأطراف الحكومية بالرد على المعارضة اما عبر الاقلام القذرة الشتامة التي لا يؤمن احد بما تقوله او عبر برامج استهزائية طفولية سخيفة تزيد من تعاطف الناس مع من يتم التهجم عليه مستحضرين أساليب ومناهج اعلامية عفى عليها الزمن وأثبتت ضررها الشديد على من يقف خلفها كحال اعلام غوبلز والصحاف واحمد سعيد وموسى صبري.. الخ، وكان الله في عون الحكومة وعوننا اذا لم تستطع ان ترد على ناقديها بالحكمة والحجة والمنطق.

آخر محطة:

نقترح على من يحاول الاساءة لعلاقاتنا المتميزة بالولايات المتحدة الصديقة عبر الهجوم المغرض على سفيرتها الباسمة المحبة للكويت الفاضلة ديبورا جونز ان يخبرنا في البدء أين كان ابان الغزو الصدامي الغاشم للكويت عندما كانت أميركا تضحي بزهرة شبابها لتحرير بلدنا ومرة أخرى لإسقاط عدونا صدام؟

احمد الصراف

ابن الشيخ ومكارثي

«… أيها الاخوان، ان الأمة التي تحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الميتة الشريفة، يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهم الذي اذلنا الا حب الدنيا وكراهية الموت، فاعدوا انفسكم لعمل عظيم، واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة، رزقنا الله واياكم كرامة الاستشهاد في سبيله..»!
(حسن البنا)
***
في بداية خمسينات القرن الماضي شنّ السيناتور الاميركي جوزيف ماك آرثر حملة شرسة ضد شيوعيي أميركا، وقضى على مستقبل الكثير من الفنانين والسياسيين ورجال الاعمال لمجرد الاشتباه بوجود ميول يسارية لديهم تخالف المصالح الوطنية الاميركية! وقد كان لقرارات لجنته البرلمانية آثار سلبية حادة في المجتمع الاميركي دفع الكثير من الابرياء ثمنها غاليا، كما تسبب لفترة طويلة في القضاء على اي دعوة يشتم منها رائحة تقارب مع الاتحاد السوفيتي او اي دولة شيوعية، والشك في نواياهم مما نتج عنه اطالة امد الحرب الباردة بين الطرفين التي تضرر منها العالم اجمع.
ما نشاهده الآن في دولنا، كما لاحظ الزميل والاعلامي البارز سليمان الهتلان في مقال له في «شفاف الشرق الاوسط» اننا اصبحنا نمر بالحقبة المكارثية نفسها في اميركا، مع الفارق، حيث يعتقد، وهو محق في ذلك، ان الارهاب لم يعد اشكالية فكرية (بين السلطة والجماعات الدينية) او مسألة قابلة للاخذ والرد، بل الامر يتعلق بضرورة قيام حكومات الدول الاسلامية، والنفطية بالذات، بالاصلاحات التعليمية والاقتصادية والسياسية والتربوية وعلى كل الاصعدة الاخرى لدفع المجتمع للانفتاح الخلاق على العالم، (واعطاء المرأة حقوقها الكاملة، اسريا واجتماعيا وسياسيا)، ولكن ما نشاهده على ارض الواقع ان الحكومات كلما اقدمت على اي حركة اصلاحية سرعان ما تواجه بتحذيرات بان هذه الحركات ما هي الا تلبية لدعوات غربية، ومخالفة للدين، وسينتج عنها فساد عظيم!
نعم، لقد آن الاوان للتخلص من المكارثية الدينية الخليجية والانفتاح التام على العالم بصورة متدرجة مع السير بسرعة قصوى في خطط التنمية واصلاح المجتمع واعطاء التربية والتعليم الاولوية على كل ما عداهما، بعد تطوير المناهج وازالة كل ما له علاقة برفض الآخر وكراهيته والسعي، جهادا، او غير ذلك، للقضاء عليه!
وقد ذكرتني دعوة التحذير من التغريب والتحضر برسالة سبق ان ارسلها الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ المفتي، وحفيد محمد بن عبدالوهاب، والتي ورد نصها في كتاب للتويجري، ووصلتني من صديق، ارسلها للملك عبدالعزيز بن سعود قبل حوالي 75 عاما، ينصحه فيها عدم جلب «الاجانب» للتنقيب عن النفط في المملكة، ومنعهم من التجول لان منظرهم محزن للمؤمنين! وغني عن القول ان الملك لم يستمع لتلك النصيحة، ولو التفت لها ابن سعود لتغير وجه المملكة والمنطقة بشكل كامل! وهذا مثال حي على ان العيش في خوف من الآخر وتحريم الاتصال به وتفسير كل دعوة للتحضر والتآلف والاتصال مع الآخر بانها الشر بعينه والخطر الاكبر على العقيدة، لا يمكن الا ان تجر الى التخلف، وان على الدول الاسلامية، والكويت والسعودية بالذات، عدم الالتفات لدعوات التخويف والتخلف والمضي قدما الى الامام، فالحضارة امامنا ولم تكن يوما خلفنا!

أحمد الصراف

سعيد محمد سعيد

إنه العيد يا أحبتي

 

تعانقا طويلا صبيحة يوم العيد… كان العناق يكفي لإزالة ما علق في القلوب من أدران وآلام وجفاء… قال الأول: «هل تذكر كيف كنا نفرح بالعيد ونحن صغارا… نجوب البيوت والأحياء في سعادة غامرة… كبرنا وكبرت معنا ذكرياتنا… أخذتنا الحياة ذات اليمين وذات الشمال… تفرقنا… لسنين طويلة، لم يبادر أي منا ليلقي على الآخر تهنئة العيد… ها أنذا أبدأ بالمبادرة، ولنطوي صفحة الماضي… لننسى سنين القطيعة يا صديقي العزيز».

أجابه الثاني: «ما كان لنهار هذا العيد أن ينتصف إلا وأنا أضع يدي في يدك وأعانقك مهنئا ومعتذرا على ما بدر منك وما بدر مني… نعم، أتذكر طفولتنا وشبابنا، وأتذكر أيضا كيف لعب في رأسنا الشيطان حتى أنسانا (عيشا وملحا) بيننا… أنت لست صديق طفولتي، أنت أخي الذي افتقدته لسنوات… عيدك مبارك يا عزيزي».

***

هنيئا لمن يزرع البسمة في نفوس أطفال يتامى… ويراقبهم وهم ينطلقون مع أترابهم يتراقصون بفرحة العيد وبهجته وجديد ثيابه… كانت تلك الفتاة الشابة، كعادتها في ليالي العيد، تجوب بيوت القرية لتزور الأيتام، وتهديهم من جميل الهدايا ما يجعلهم ينتظرونها ليلة كل عيد… البارحة، وربما الليلة، وربما غدا… ستكون معهم… تزور بيوتهم كما كانت عادتها… توزع عليهم العيدية والهدايا وأكياس من الثياب والأحذية… وتدمع عيناها وهي تشاهد تراسيم الفرح على وجوههم…

ليت كل واحد منا، أو ممن حولهم يتيما أو يتيمة… من الأهل أو من الجيران… يحتضن أولئك اليتامى ولو للحظات، ويشعرهم بأن الدنيا بخير… وأن اليتم المؤلم ليس وجعا أبديا، بين أناس تمتلئ قلوبهم بالعطف والرحمة والإيمان.

***

أبدا، لا تكفي تلك البرامج والهدايا والأهازيج الجميلة التي تقام في دور العجزة لإشاعة الفرحة في نفس أب أو أمٍّ بقيا لسنين طويلة في تلك الدار، لا يرون فلذات أكبادهم إلا فيما ندر… بادرة طيبة وكريمة تلك التي يقوم بها المسئولون في دور العجزة لمؤانسة الآباء والأجداد الذين يقضون ما بقي من أيام حياتهم هناك… قد نشاهد أحدهم يصفق مبتسما وهو يشارك من حوله في أهزوجة من أهازيج العيد… أو يتبادلون التهاني والعناق بأجسادهم الضعيفة الهزيلة… لكن لا يعادل فرحتهم برؤية عيالهم وعيال عيالهم فرحة أخرى… الدور قريبة، والأعزاء هناك… لا أكثر من ساعة زمن نقبل رؤوسهم ونهنئهم بالعيد السعيد، وإن كان في المنزل متسع، فعودوا بهم ليقضوا الباقي من أيام العمر… وسط دفء العائلة، وليكون عيد الأضحى المقبل، من أجمل الأعياد في حياة تلك الشموع.

***

أبي:

كيوم العيد أنت وصوتك الحاني

جميل أعذب من كل ألحاني

يهز عميق وجداني ويسعدني

كترتيل على شفتيك روحاني

***

أمي:

امسحي راسي يا يمه

واهدي قلبي قبلتين..

قبلة ترويني بحنانك..

قبلة تبقى بعمري دين.

عيدكم مبارك، وعساكم من العايدين والسعيدين