في زيارة سريعة خاطفة إلى مصر، التقيته مصادفة. كان زميل دراسة في الكلية الفنية العسكرية في القاهرة، وكانت بداية معرفتنا في زنزانة الكلية، أنا دخلتها بعد القبض عليّ متلبساً بالتدخين كالعادة، وهو بتهمة الإهمال وعدم حلاقة ذقنه.
كان متسلطاً في الزنزانة، والطلبة يهابونه لضخامة بنيانه الذي يرشحه بجدارة للتمثيل في السينما كأحد رجال القيصر الذين يسيرون بجانب العربة، وهو فوق ضخامته متهوّر أرعن مجنون لا يعي عواقب الأمور، وهذا ما قاده في النهاية إلى الطرد من الكلية، لكنه للأمانة كان ذا نكهة لذيذة، وذا منطق خاص، وزاوية خاصة ينظر من خلالها إلى الأشياء. وكان مؤمناً بنظرية التطور والارتقاء «بتاعة الحاج داروين»، كما كان يسميه، وأن الإنسان أصله قرد، وأن العميد الركن سعيد «لسّه في مرحلة الشمبانزي، فاضل له شهرين ويبقى بني آدم زينا».
وستكون ليلة الزنزانة وسكانها الأفاضل أشد سواداً من ريش الغراب عندما يحصل صاحبنا على «صاروخ»، وهو اسم الدلع لسيجارة الحشيش الضخمة. لن ينام أحد تلك الليلة المباركة، فالنقاش الفلسفي سيرتفع مع ارتفاع الدخان الأزرق، والنظريات ستملأ الأرجاء، وعلى الجميع الإنصات والاستفادة من رجل القيصر قبل أن يموت وتخسره البشرية، وكان يسمي «هلوساته» محاضرات. وهو إنسان مهووس ملحوس منحوس، ذهب الحشيش بكل مخه وتركه في العراء يلقي محاضراته.
وذات نومة إرهاق وشخير في الزنزانة، شعرت في ما يشبه الحلم أن فيلاً إفريقياً يضربني بخرطومه، وتكررت الضربات، وتكرر معها النداء الهامس: «واد يا أخا العرب، أخا العرب، أخا العرب…»، فاستيقظت مفزوعاً فإذا الفيل الذي خيّل إليّ ليس إلا صاحبنا «شريف»، رجل القيصر، يلكزني في كليتي، وكان يسمّيني «أخا العرب»، إذ ليس لديه وقت لحفظ الأسماء، فهو مشغول بما ستؤول إليه الطبيعة والبشر بعد ألفي عام من اليوم. وكان يتوقع أن يتحول العرب إلى جِمال، والعرب بحسب رأيه هم شعوب الخليج العربي واليمن فقط، أما المصريون فسيتحولون إلى جواميس، وإخواننا الهنود ثعابين، واليابانيون نسانيس، و»البت فلانة» (نسيت اسمها، وكان مفتوناً بها) ستتحول إلى فراشة، وسيتحول أبوها إلى حمار يحمل الحديد إلى أعالي الجبال، وهكذا…
استيقظت على لكزاته ونداءاته «أخا العرب أخا العرب» وصرخت في وجهه: ملعون أبو العرب على أبو كليب بن وائل، عاوز ايه؟ فأجاب: مش جاي لي نوم، قلت أصحّي أخا العرب يستفيد مني قبل ما أموت، أصل أنا ملاحظ إنك كلما بدأت أنا المحاضرة تروح تنام! ثم راح يحكي دون أن ينتظر إجابة: «مش انت بتقول إن كل شبر في الكرة الأرضية عام 3904 سيمتلئ بالبشر، وسيعيش الناس وقوفاً لعدم توافر المساحة للجلوس…»، فقاطعته: «مش أنا اللي بقول الكلام ده، هذا حفيد الحاج داروين بتاعك، يقول إن نسبة تزايد السكان ترتفع بشكل مخيف، وباستخدام الآلة الحاسبة توقع أن يعيش الناس وقوفاً على أقدامهم عامذاك، ينامون وقوفاً مستندين إلى بعضهم، يقضون الحاجة وقوفاً، يتزاوجون وقوفاً، وهكذا»، فصرخ بغضب: «مين الملعون اللي هيتزاوج يوميها واحنا واقفين في الطابور، دا أنا أفرمه بإيدي، هو احنا ناقصين زحمة؟».
كانت نقاشات لذيذة أحياناً، غبية أحياناً أكثر… وقبل أشهر التقيته مصادفة فعرفته وناديته، فأقبل نحوي بكرش يتدلدل على ركبتيه وقد أطلق ضحكته المجلجلة، فاتحاً ذراعين كجناحي طائرة: «يا أهلا يا أهلا، ايه الصدفة الجميلة دي يا أخا العرب، يخرب بيتك، انت كبرت اهوه زي البشر، سنتين وهتبقى جمل وترعى في الفلاء»، قال ذلك ثم أطبق عليّ بجناحيه الضخمين، فتذكرت موقف سيدنا يونس وهو في بطن الحوت، وقلت بصوت يشبه الفحيح: «ما شاء الله، الكرش على قدر المسؤولية، مبروك ومنها للأعلى»، فاستفسر عن معنى كلامي، فأوضحت له أنها دعوة لمزيد من الانتفاخ، فأشار إلى كرشه: «أكتر من كده إيه؟»، قلت: «الانفجار الكوني الضخم وتكوّن المجرات»، فتزلزلت الأرض بضحكاته.
ثم سألني فأجبته وليتني لم أفعل: «أشتغل في الصحافة يا شريف»، فحلّفني بكل عزيز أن أقول للعرب، الذين هم أهل الخليج واليمن، أنهم سيتحولون إلى جِمال ترغي خلال أقل من ألفي عام، فلينتبهوا.