محمد الوشيحي


ستصبحون جِمالاً… فانتبهوا

في زيارة سريعة خاطفة إلى مصر، التقيته مصادفة. كان زميل دراسة في الكلية الفنية العسكرية في القاهرة، وكانت بداية معرفتنا في زنزانة الكلية، أنا دخلتها بعد القبض عليّ متلبساً بالتدخين كالعادة، وهو بتهمة الإهمال وعدم حلاقة ذقنه.

كان متسلطاً في الزنزانة، والطلبة يهابونه لضخامة بنيانه الذي يرشحه بجدارة للتمثيل في السينما كأحد رجال القيصر الذين يسيرون بجانب العربة، وهو فوق ضخامته متهوّر أرعن مجنون لا يعي عواقب الأمور، وهذا ما قاده في النهاية إلى الطرد من الكلية، لكنه للأمانة كان ذا نكهة لذيذة، وذا منطق خاص، وزاوية خاصة ينظر من خلالها إلى الأشياء. وكان مؤمناً بنظرية التطور والارتقاء «بتاعة الحاج داروين»، كما كان يسميه، وأن الإنسان أصله قرد، وأن العميد الركن سعيد «لسّه في مرحلة الشمبانزي، فاضل له شهرين ويبقى بني آدم زينا».

وستكون ليلة الزنزانة وسكانها الأفاضل أشد سواداً من ريش الغراب عندما يحصل صاحبنا على «صاروخ»، وهو اسم الدلع لسيجارة الحشيش الضخمة. لن ينام أحد تلك الليلة المباركة، فالنقاش الفلسفي سيرتفع مع ارتفاع الدخان الأزرق، والنظريات ستملأ الأرجاء، وعلى الجميع الإنصات والاستفادة من رجل القيصر قبل أن يموت وتخسره البشرية، وكان يسمي «هلوساته» محاضرات. وهو إنسان مهووس ملحوس منحوس، ذهب الحشيش بكل مخه وتركه في العراء يلقي محاضراته.

وذات نومة إرهاق وشخير في الزنزانة، شعرت في ما يشبه الحلم أن فيلاً إفريقياً يضربني بخرطومه، وتكررت الضربات، وتكرر معها النداء الهامس: «واد يا أخا العرب، أخا العرب، أخا العرب…»، فاستيقظت مفزوعاً فإذا الفيل الذي خيّل إليّ ليس إلا صاحبنا «شريف»، رجل القيصر، يلكزني في كليتي، وكان يسمّيني «أخا العرب»، إذ ليس لديه وقت لحفظ الأسماء، فهو مشغول بما ستؤول إليه الطبيعة والبشر بعد ألفي عام من اليوم. وكان يتوقع أن يتحول العرب إلى جِمال، والعرب بحسب رأيه هم شعوب الخليج العربي واليمن فقط، أما المصريون فسيتحولون إلى جواميس، وإخواننا الهنود ثعابين، واليابانيون نسانيس، و»البت فلانة» (نسيت اسمها، وكان مفتوناً بها) ستتحول إلى فراشة، وسيتحول أبوها إلى حمار يحمل الحديد إلى أعالي الجبال، وهكذا…

استيقظت على لكزاته ونداءاته «أخا العرب أخا العرب» وصرخت في وجهه: ملعون أبو العرب على أبو كليب بن وائل، عاوز ايه؟ فأجاب: مش جاي لي نوم، قلت أصحّي أخا العرب يستفيد مني قبل ما أموت، أصل أنا ملاحظ إنك كلما بدأت أنا المحاضرة تروح تنام! ثم راح يحكي دون أن ينتظر إجابة: «مش انت بتقول إن كل شبر في الكرة الأرضية عام 3904 سيمتلئ بالبشر، وسيعيش الناس وقوفاً لعدم توافر المساحة للجلوس…»، فقاطعته: «مش أنا اللي بقول الكلام ده، هذا حفيد الحاج داروين بتاعك، يقول إن نسبة تزايد السكان ترتفع بشكل مخيف، وباستخدام الآلة الحاسبة توقع أن يعيش الناس وقوفاً على أقدامهم عامذاك، ينامون وقوفاً مستندين إلى بعضهم، يقضون الحاجة وقوفاً، يتزاوجون وقوفاً، وهكذا»، فصرخ بغضب: «مين الملعون اللي هيتزاوج يوميها واحنا واقفين في الطابور، دا أنا أفرمه بإيدي، هو احنا ناقصين زحمة؟».

كانت نقاشات لذيذة أحياناً، غبية أحياناً أكثر… وقبل أشهر التقيته مصادفة فعرفته وناديته، فأقبل نحوي بكرش يتدلدل على ركبتيه وقد أطلق ضحكته المجلجلة، فاتحاً ذراعين كجناحي طائرة: «يا أهلا يا أهلا، ايه الصدفة الجميلة دي يا أخا العرب، يخرب بيتك، انت كبرت اهوه زي البشر، سنتين وهتبقى جمل وترعى في الفلاء»، قال ذلك ثم أطبق عليّ بجناحيه الضخمين، فتذكرت موقف سيدنا يونس وهو في بطن الحوت، وقلت بصوت يشبه الفحيح: «ما شاء الله، الكرش على قدر المسؤولية، مبروك ومنها للأعلى»، فاستفسر عن معنى كلامي، فأوضحت له أنها دعوة لمزيد من الانتفاخ، فأشار إلى كرشه: «أكتر من كده إيه؟»، قلت: «الانفجار الكوني الضخم وتكوّن المجرات»، فتزلزلت الأرض بضحكاته.

ثم سألني فأجبته وليتني لم أفعل: «أشتغل في الصحافة يا شريف»، فحلّفني بكل عزيز أن أقول للعرب، الذين هم أهل الخليج واليمن، أنهم سيتحولون إلى جِمال ترغي خلال أقل من ألفي عام، فلينتبهوا. 

احمد الصراف

سائق الركشو وليلى الغانم

تقول أرونا لادفا: «كلما قلت حاجاتنا قل عدد الذين يتحكمون بنا»
عاد دينو من زيارة للهند، وأخبرني القصة التالية:
ركبت وزوجتي وابني عربة اجرة صغيرة تسمى «ركشو» تدار بمحرك دفع صغير، ولا يزال البعض منها يجر باليد. ما ان استوينا جالسين حتى وقعت عيناي على بضع مجلات موضوعة في كيس انيق خلف كرسي السائق. نظرت الى الامام فرأيت جهاز تلفزيون وبجانبه راديو صغير، فتبادلت وزوجتي نظرات الاستغراب لوجود مثل هذا الاشياء في ركشو متواضعة، وزادت دهشتنا عندما اكتشفنا وجود مطفأة حريق وصيدلية صغيرة تحتوي على قطن وشاش وزجاجة تطهير جروح وبعض الادوية.
وكانت هذه الاشياء كافية لكي نعرف أننا مع سائق ركشو غير عادي. فقد كانت هناك ساعة ومفكرة حائط وعدة صور سياحية ومقتطفات تمثل مختلف الديانات «السماوية» وبعض ديانات الهند الاخرى. ويقول دينو ان كل هذا دفعه للتحدث مع السائق، فعرف منه انه يقود عربته منذ 9 سنوات تقريبا، بعد ان فقد وظيفته في مصنع بلاستيك. وانه يعمل من الثامنة صباحا وحتى العاشرة مساء، وان عليه التزامات عدة، منها رسوم مدارس طفليه، ويقول دينو: مع علمي بأن لا وقت لدى السائق لاداء اي عمل آخر الا انني سألته عما يفعله بعد انتهائه من قيادة الركشو، فقال انه يذهب مرة كل اسبوع، او كلما توفر لديه بعض المال الفائض، لملجأ مخصص للنساء العجائز، ليقوم بتوزيع فرش ومعاجين اسنان وقطع صابون ودهن شعر واشياء صغيرة اخرى عليهن… مجانا! ويقول دينو ان السائق لفت نظرهم للوحة صغيرة موضوعة تحت عداد الاجرة كتب عليها ان لذوي الاحتياجات الخاصة خصم 25%. ويعفى فاقدو البصر من الاجرة متى ما كانت ضمن مبلغ 50 روبية.
ويبدو ان بعض صحف وقنوات تلفزيون مومباي تعرف الشيء الكثير عن السائق، حيث سبق ان استضيف في برامجها وعلى صفحاتها اكثر من مرة، وقد نال الرجل اعجاب دينو وزوجته فهو بطل في عيون الكثيرين ويستحق الاحترام. وعند وصول دينو لوجهته قدّم الشكر للسائق سنديب باتشا، وشكره على نبل اخلاقه، وكيف انه وزوجته وابنه تعلموا منه كيف يمكن ان يكون الإنسان فقيرا وانسانيا في الوقت نفسه ومحبا للآخرين وناكرا للذات. وبعد ان نفحه «إكرامية» معقولة تمنى عليه الاستمرار في عمله الانساني العظيم!
ذكرتني قصة سنديب بقصة مماثلة انتشرت على الانترنت عن «قهوة الحائط»، وتتعلق بمقهى يقع في مدينة البندقية الايطالية، وعندما يطلب بعض رواده قهوة، يطلب عادة فنجانا آخر للحائط(!) وهنا يقوم النادل بتقديم فنجان له وتسجيل الفنجان الآخر عن طريق وضع علامة واضحة على احد حوائط المقهى الخارجية. وعندما يمر من يود تناول قهوة ولا يمتلك ثمن الفنجان فإنه ينظر الى الحائط فإن وجد العلامة جلس وطلب «فنجان قهوة على الحائط» لينهيه ويغادر من دون دفع شيء، ليقوم النادل بعدها بإزالة احدى العلامات عن الحائط، ويتم كل ذلك بهدوء ومن دون ان يعرف الكريم او الفقير بعضهما البعض وبطريقة تتسم بقدر كبير من الكرم والحضارة!
كم هو جميل ان نجد من يفكر في الآخر بطريقة ايجابية من دون التسبب في ايذاء مشاعره، وما احوجنا لمثل هذه الشخصيات بيننا، كما لا تزال «مبرة رقية القطامي لأمراض السرطان» وليلى الغانم بانتظار تبرعاتكم يا أهل الخير.

أحمد الصراف