محمد الوشيحي

قفوا نبكِ


فعلاً، آخر ما نحتاج إليه في اللحظات هذه هو إلقاء التُّهم من علٍ على المسؤولين، أو رشق الحكومة بصفات التخاذل والتقصير في «كارثة العيون»، وكأننا بذلك نريد أن نبرِّئ ذممنا.

دعونا من كل هذا الآن، ولنركز على حالات المُصابين، وكيفية تعامل الحكومة معها، ولنفكر في طريقة تخفف -أقول تخفف- بعضَ ألم ذوي الضحايا، ولا أدري كيف، لكن لنفكر في «كيف».

وعزاؤنا، إن كان ثمة عزاء، هو أن دماء ضحايا «العيون» رفعت إصبعها في وجوهنا وخاطبتنا بجدية المتألّم: «دعوا كل ما في أيديكم من توافِه، وابنوا مستشفياتكم تحسُّباً لكارثة مثل هذه أو أكبر، لا قدَّر الله». فهل نحقق طلب الضحايا أم نبقى سادرين في غيّنا نتهم كل من صرخ في وجه الحكومة مطالباً بالمستشفيات بأنه «مؤزِّم»؟ ألا لعنة الله على المتخاذلين.

لاحقاً لا الآن، سنتحدث عن تلفزيون الدولة، وعن دور وزير الإعلام ووكيله، وسنتحدث عن الدولة المتهالكة، وعن المسؤولين الذين اعتقدوا واهمين أن فصول السنة كلها ربيع.

عبدالله العتيبي ومظلومية القبائل

حكاية استقالة الزميل عبدالله العتيبي من جريدة «الجريدة»، ليست مؤلمة بقدر ما هي غريبة.

ولمن لم يبلغه الخبر أقول: تقدم الزميل العتيبي باستقالته مبرراً ذلك بأن «الجريدة» تخاذلت في تغطية كارثة العيون لدواعٍ عنصرية!! (أول مرة في حياتي الكتابية أستخدم علامتَي تعجب معاً)… ما هذا يا زميل يا جميل؟!

بلغني الخبر فقررت الاتصال بإدارة التحرير لأتبيّن ما وراء الستارة، وحرت، هل أتصل برئيس التحرير الزميل خالد هلال «المطيري»، أم بمساعد مدير التحرير الزميل سعود «العنزي»، أم بمسؤول الصفحة الأخيرة الزميل ناصر «العتيبي»، وهو الرئيس المباشر الذي يتبع له الزميل المستقيل عبدالله العتيبي، أم أتصل بمستشار الجريدة، وأحد أبرز أعضاء مجلس قيادة ثورتها الزميل المبدع حسين «العتيبي»؟

حقيقة حرت، فكيف اتّهم أبناء القبائل بأنهم ضد القبائل؟ ما ترهم… وآه كم أهلكتنا المظلوميات الكاذبة.

المؤلم أكثر، هو أنك يا زميلنا عبدالله، تعرف رئيس التحرير منذ نحو عشر سنوات، كان طوال المدة تلك رئيسك، وتعرف الزميل ناصر العتيبي أكثر منّا نحن، وتعرف الزميلين سعود العنزي وحسين العتيبي عن قرب، وتعرف طبائعهم و»وقفتهم» مع زملائهم، وهم يعرفونك ويقدّرونك تقديراً يليق بالزمالة والصداقة والمهنية، وأنت مهني لا شكّ في ذلك ولا عكّ، لكن تصرفك الأخير لا يُقدِم عليه أمثالك، ثم تعال نتفاهم بهدوء…

أنت تعرف أن ثماني صحف جديدة لم تنشر خبر الكارثة على طبعاتها الورقية، واستعاضت عن ذلك بطبعاتها الإلكترونية، ليس استهانة بدماء الضحايا بالتأكيد، بل لسبب تعرفه أنت أكثر من الآخرين، وهو أن الصحف هذه لا تمتلك مطابع خاصة بها، يسهل معها التحكم في موعد الطباعة، تأخيراً أو تبكيراً، وتعلم أن خبر الكارثة جاء متأخراً، أي بعد أن دارت المطابع بفترة طويلة، بل إن جزءاً من الأعداد كان في طريقه إلى السوق ونقاط البيع! وأجبني من فضلك: هل الزميلة جريدة «عالم اليوم»، على سبيل المثال، ضد القبائل؟

نعم، نعلم أنها كانت لحظات غضب بسبب الكارثة، ونعلم أنك -حسب قولك- لست مَنْ نشر الخبر، وكلنا نصدقك، فأنت صدوق بشهادة الجميع، ونعلم أن أحداً ما قد سرّب الاستقالة، لكن السؤال الأهم: لماذا الاستقالة من الأساس؟ والسؤال الموجه إلى الزميل رئيس التحرير: لماذا قبِلت الاستقالة على الفور وأنت تعلم أنها كانت نتيجة لحظات غضب كارثي؟

على أي حال، «لم يسبق السيف العذل»، فلايزال العذل في الصدارة، ولايزال «الحُرُّ يفهم بالإشارة»، والزميل عبدالله لا غنى لنا عنه، و«الجريدة» هي سقفنا الذي نستظل به من حرقة الشمس وغرقة المطر. 

احمد الصراف

ابن الأصل وابن المدنية

تحتل قضايا الأصل، الأرومة، العائلة، المحتد وعراقة النسب حيزا كبيرا من مخيلة وتفكير وحياة الكثير من المجتمعات. وكلما زادت مدنية وتحضر المجتمع زاد اعتماد افراده على ما توفره الدولة لهم من حماية وتعليم وشعور بالانتماء، وهذا من شأنه التقليل من اهمية قضايا الاصل والأرومة او الاعتماد على القبيلة او العائلة في قضاء الحاجات.
ففي المجتمعات القديمة، متخلفة كانت ام صحراوية، او حتى قريبة من المدنية، وقبل نشوء الدولة الحديثة بصورتها الحالية، كان للعائلة او القبيلة دور واهمية في قضايا الزواج والنسب، وحتى في العلاقات السياسية والقيادة! فالقبيلة هي التي توفر الامان والقوة للمنتسبين لها، كما ان القادة والسياسيين يأتون عادة منها، وكلما زاد حجم القبيلة، او العائلة، كانت اكبر تأثيرا، سياسيا واجتماعيا، واكثر جاذبية للانتساب لها عن طريق المصاهرة لأن بامكانها، اكثر من غيرها، توفير الحماية للمنتمين لها والدفاع عن حقوقهم والذود عن حياضهم، وتوفير المناصب الحكومية لهم.
وربما لهذا السبب حدثت الردة المدنية قبل بضع سنوات في احد المجتمعات الخليجية، عندما عادت مجاميع كبيرة، شبه مدنية، لأصولها وتسمياتها القبلية التي سبق ان هجرتها، وذلك بعد ان رأت ما يوفره لها ذلك الانتماء من قوة وقدرة على الوصول لأعلى المناصب واكثرها جلبا للقوة والثراء!!
وعليه فان سعي الجميع في مثل هذه المجتمعات المتخلفة لمصاهرة ابناء او بنات القبائل او العائلات الكبيرة، وذات الحسب والنسب من لوردات او بشوات او بيوت سادة ووجهاء من حملة الالقاب والاسماء الرنانة، ولو كانت فارغة، ليست بالامر المستغرب. ولو قدر لشخص كتابة ثلاثة سيناريوهات عن ثلاثة مجتمعات لقصة محددة تتعلق بموقف الاب من طلب ابنه الزواج لوجدنا ان الاب في مجتمع صحراوي او جبلي بعيد عن المدنية سيركز على انتماء الفتاة، او الفتى قبليا او عائليا. اما في مجتمع نصف متحضر وقريب من المدنية فان الاسئلة ستتمحور حول ظروف اب أو أم الفتى او الفتاة، وخلفيتهما التعليمية ومكانتهما الاجتماعية، مع اعتبار أقل لأصلهما وفصلهما الاكثر عمقا وعمومية. أما اذا كان المجتمع مدنيا خالصا فمعيار الاختيار او التركيز سيكون على الجوانب المتعلقة بالفتى او الفتاة بحد ذاتهما من ناحية مستواهما التعليمي والوظيفي والعمر والوسامة والجمال، مع اعطاء اهمية اقل لدور او خلفية الاب والأم!! ويعود سبب ذلك الى الفهم القديم الذي كان سائدا، ولا يزال في مجتمعات كثيرة، ان فرصة ابن الاصل في الحصول على تربية وتعليم احسن اكبر من غيره، وان هذا يجعله يتصرف بطريقة اكثر فروسية وارفع خلقا من العامة في التعامل مع الطرف الآخر، زوجا او زوجة او بشرا. وان «ابن الاصل» اكثر محافظة على سمعته العائلية، مقارنة بغيره من ابناء او بنات العامة!!
ولكن هذه المفاهيم تغيرت مع تغير المجتمعات والظروف، وأصبح الفساد او الدونية في التصرف غير قاصر على مجتمع أو طبقة دون غيرها، بعد ان زالت الفوارق تقريبا في غالبية المجتمعات بين الأسر مع اضمحلال نظام الطبقات. نقول ذلك بشكل عام فلا تزال هناك استثناءات، والعامل الاهم وراء هذا الاضمحلال يعود للتعليم، ودوره في ادارة المجتمعات. فالتعليم المميز اصبح في متناول الجميع، بعد ان كان قاصرا، لسنوات طويلة، على ابناء طبقات اجتماعية معينة. وهكذا أصبحنا نرى في جهة أن الجميع يتسابق لمصاهرة صاحب التعليم العالي والبارز اجتماعيا والناجح سياسيا والمميز ماديا، بصرف النظر عن خلفيته العائلية. كما أصبحنا نرى في جانب آخر ان المناصب السياسية والشديدة الخطورة وادارة الشركات العملاقة أصبحت من نصيب الأكثر كفاءة والاعلى تعليما، وليست قاصرة على أبناء الاسر المميزة، او الثرية، حتى ولو كانوا، سابقا، من كبار القادة والسياسيين، أو من كبار حملة أسهم تلك الشركات الضخمة. ولو أخذنا بريطانيا مثالا، وهي التي تتجذر فيها روح الطبقية بشكل كبير، لوجدنا ان آخر 4 رؤساء وزارة حكموها في العقود الثلاثة الأخيرة كانوا من بنات وأبناء أكثر طبقات المجتمع تواضعا.
نختم مقالنا بالقول ان مقاييس الحكم على الآخرين تغيرت تدريجيا مع الثورة الصناعية في أوروبا في القرن السابع عشر، ليصبح المميز من بامكانه تقديم الأفضل لمجتمعه ووطنه والجنس البشري، بصرف النظر عن أصله وفصله، وهذا لا يسري علينا، فمجتمعاتنا لا تزال على سابق تخلفها، ولأسباب معروفة للكثيرين منكم!!

أحمد الصراف