محمد الوشيحي

وجهة رأي

في شارع فرعي لا يكاد يُرى بالأقمار الصناعية المجردة، وفي مقهى لا يرتاده إلا ثلاثة، أنا وصاحب المقهى والجرسون، وقع نظره عليّ فدخل المقهى وألقى التحية وسحب كرسياً وجلس «بوضع اليد»، قبل أن يطرح سؤاله: هل تسمح باقتطاع جزء من وقتك لأتبادل الحديث معك؟ قلت: ومن قال لك إن وقتي ثمين؟ ليس لدي ما يشغلني إلا قراءة هذا الكتاب، وهو كتاب قديم كما ترى، عن ثورة المفكرين الأوروبيين على الكنيسة، فلتمطر سحب حديثك لتبلل ثيابنا…

قال وقد اعتدل في جلسته: جميل، لنبدأ إذاً من كتابك هذا الذي في يدك… أنت تتهمنا نحن معشر المتدينين بالرجعية والتخلف لأننا نقرأ كتباً قديمة، وها أنت تقرأ كتاباً قديماً، لا خير يرجى منه ولا شر!

قلت: أنا أقرأ، وقد أقتنع أو لا أقتنع بما أقرأه، وسواء اقتنعت أم لم أقتنع، لن أفرض قناعاتي على الناس، كما تفعلون أنتم ويفعل ساسة الدين. خذ إيران مثلاً، هي تقتنع بالمذهب الشيعي، وتريد أن تفرض على الكواكب وسكانها قناعتها ومذهبها، خذ أسامة بن لادن والظواهري وأنصارهما مثالاً أسود آخر، وكيف يعتبرون أنفسهم «الفرقة الناجية» ويسعون إلى استئصال بقية الفرق والمنتخبات، خذ وخذ وخذ، وانظر إلى الكويت بعدما عتت رياحها الطائفية، وتحولت إلى إعصار سيقتلعنا من جذورنا، من ينقذنا الآن منها؟… كل هذا بسبب فرض المعتقدات على الآخرين.

قال: لندع الحديث عن المذاهب، فأنت وأنا من مذهب واحد ولن نختلف، وتعال لنتحدث عن أفكارك التي تنشرها دون مراعاة الله…

فقاطعته: لا تحتكر السماء لك وحدك وتبقيني هنا بلا سماء، وحكاية أننا لن نختلف لأننا من مذهب واحد، أود أن أنبهك أنني سأختلف مع أخي لو كان متشدداً، وهو الذي يجمعني معه دين ولغة ومذهب وقبيلة وفخذ وعائلة، بل وظهر رجل واحد، وسقف بيت واحد، فكيف لا أختلف معك وأنا لا أعرفك!

فقال بعدما أقسم أنه لا يراني خارجاً على الملة: أنت ذكرت في مقالتك السابقة أنك لست مقتنعاً بحكاية الجني الذي يتلبّس الإنسي، ورحت تهزأ بالعلماء…

قلت: مع احترامي للمشايخ، فإنهم ليسوا علماء، فالعلماء كما أعرف هم من يكتشف الجديد، ويخترع المفيد، أما المشايخ فهم يتحدثون عن الماضي، ويعتمدون على الكتب نفسها، ورغم ذا يختلفون، وتأتون أنتم لتطلقون لقب «عالم» على شيخين مختلفين، دون أن يثبت أي منهما صحة نظريته، وهو ما لا أقره أنا، معلش سوري. هذا أولاً، أما ثانياً، فأنا بالفعل لست مقتنعاً بحكاية الجني الذي يتلبّس الإنسي، وحكاية إخراجه من الأصبع الصغيرة من القدم اليسرى، وزيت مقروء فيه وماء مبصوق فيه وبقية مواد الدروشة المنزلية. ثم إن هؤلاء المشعوذين، كما أعرف، ليسوا «علماء» في رأيكم، وإنما «مطاوعة»، أو كما تسمونهم أنتم الحضر «ملالوة»، ولا يذهب إليهم إلا بسطاء الناس الذين أغويتموهم أنتم وأرعبتموهم من الغيبيات والخرافات، لتكدّسوا الأموال في أرصدتكم بينما هم يتضورون جوعاً.

وأدرفت بعدما «سخنت» ماكينة الديزل: قل لي بربك، لماذا لا يحتج «علماؤكم» على عدم وجود وظائف لبسطاء الناس، وعلى ضعف الخدمات، وتهالك البنى التحتية؟ قل لي لماذا يرتدون أزهى الثياب والبشوت ويقابلون الحكام، ويشاهدون قصورهم وقصور أبنائهم الخيالية المبنية من أموال البسطاء ولا يعترضون على ذلك؟ ستقول أنهم يناصحونهم سراً، وسأجيبك: إلى متى يبقى سراً هذا التناصح بينما الناس تتناطح على أبواب لجان المساعدات؟ لماذ لا يخرج المشايخ إلى الناس ويخطبون فيهم ويقودونهم إلى المطالبة بحقوقهم… معلش يا أخي، أنتم تضربون الناس بالإبر المخدرة منذ قرون وقرون وقرون، ومن يصدقكم هو إنسان بقرون وقرون وقرون. معلش هذه «وجهة رأيي»، أرجو ألا تغضبك، فإن أغضبتك، فلك أن تنهي الحديث. 

سامي النصف

الشبرة والغرفة ومشروع الدولة الورقية

هناك ما يقارب الاتفاق على ان تخلفنا عن الآخرين قد بدأ قبل 30 عاما مضت، مما يأخذنا حسابيا الى العام 1979 او ما حوله، فما الذي حدث في ذلك العام؟ وما المفاهيم التي تغيرت في حينها فتحولنا من التقدم الى التندم ومن الريادة الى «الربادة» ومن الاخلاص للوطن للاختلاس منه؟!

مع عصر النهضة الكويتية الحديثة، تكونت في البلد مجموعتان اقتصاديتان ـ سياسيتان متنافستان اضيفت لهما بعد ذلك اذرع اعلامية ممثلة في جريدتي «القبس» و«الأنباء»، وقد اتفق على تسمية الفريق الاول بتجمع الغرفة بقيادة العم عبدالعزيز الصقر، والثاني بتجمع الشبرة بقيادة العم خالد المرزوق.

وكان تنافس المجموعتين يصب في مصلحة تنمية الكويت وتقدمها وتطورها، فقد انشأ رجال المجموعة الاولى البنوك كالوطني والشركات الرائدة كالناقلات، قابلها لدى المجموعة الثانية انشاء البنوك كالعقاري والشركات الرائدة كعقارات الكويت التي اقامت في حينها مجمعات اسواق لا مثيل لها في الخليج او المنطقة العربية، كما اعلن عن فكرة احاطة الكويت بـ 6 مدن لآلئ بحرية كانت ستسبق مثيلاتها بالمنطقة بما لا يقل عن 10 اعوام.

ومن نافلة القول التذكير بان المجموعتين المتنافستين لم تغلقا الطريق امام الآخرين لتكوين انفسهم وانشاء المشاريع الاقتصادية الخاصة بهم والتي تضيف لبلدنا الكثير، فبرزت اسماء مثل جواد بوخمسين ومبارك الحساوي وعيسى اليوسف وحسين مكي جمعة وشاكر الكاظمي والعشرات من الاسماء الناجحة الاخرى.

وما ان هدد قبل ذلك الطاغية عبدالكريم قاسم الكويت، حتى حشد الجانبان صفوفهم للدفاع عن بلدهم، فجزء استغل علاقته مع مصر والآخر مع السعودية، ولم يملأ احد سيارته بالوقود او يحول امواله للخارج استعدادا للرحيل، بل شوهد كبارهم وهم يحملون السلاح على الاكتاف ويتجولون ليلا بين المناطق تحسبا لغدر الزعيم الذي لا ينام ومن كان يسمي نفسه «ابوالمباغتة».

ان نكبتنا ونكستنا ابتدأت في ذلك العام 1979 ـ 1980 عندما أطّر ونظّر البعض لفكرة انتهاء دور تلك القوى الاقتصادية والسياسية، وبالتالي ضرورة خلق قوى سياسية ـ اقتصادية جديدة قام عملها في النهاية على الاقتصاد «الورقي» والمضاربات «المناخية» والتي اعتبرت الكويت بلدا زائلا لا يصح الإعمار والبناء فيه ومهدت للقبول بالتضحية بمصالحه وكينونته لاجل الولاءات البديلة، وبدأ منذ ذلك اليوم مشروع الدولة الورقية التي احترقت سريعا فجر الخميس 2/8/1990، والحديث ذو شجون.

آخر محطة:

انشأ رجال المجموعتين جريدتي «القبس» و«الأنباء» وقبلوا في الوقت ذاته ان تمثل ضمنهما جميع الآراء، ففي «الأنباء» كان خالد قطمة، رحمه الله، يطرز المقالات التي تشيد بالرئيس عبدالناصر بينما بدأت شخصيا الكتابة بـ «القبس» في يناير 1980 بسلسلة مقالات قوية تهاجم خط عبدالناصر ونهجه الثوري وتدخله في شؤون الدول العربية الاخرى.