محمد الوشيحي



تكنكني ولا تعشيني

يقف أحدهم مزهواً أمام الجمهور ويمسك المايكروفون ولا موسوليني أيام عزّه، ويفتح فمه لتتساقط منه الدرر: «لكي ينهض البلد من كبوته، يجب الاعتماد على وزراء التكنوقراط، فيتسلم وزارة الصحة طبيب مختص يفقه شؤونها الفنية، ويتسلم وزارات الأشغال والطاقة والبلدية والمواصلات مهندسون، ويتسلم وزارة العدل قاضٍ، والأوقاف شيخ دين، والداخلية والدفاع للضباط…»، وهلمّ جرّا وسحلا في الشوارع العامة والأزقة! يا عمنا البليغ حمدي ترفق بنا يرحمنا ويرحمك الله، وحاول أن تفهم أولاً طبيعة مهام الوزراء قبل أن تتحدث.

شوف يا عمنا بليغ، رحمة الله عليك، صحيح أن البلد كبا ووقع في حفرة لا قرار لها، وصحيح أن لديه تذكرة درجة أولى وأن الـ»بوردنغ» في جيبه لاستكمال رحلة السقوط الميمونة، أو المينونة كما يقول الحضر، لكن السبب ليس في شهادات الوزراء الجامعية، بل في المنهجية كلها.

فحكومات التكنوقراط تضطر إلى اللجوء إليها الدول الخارجة للتو من كوارث، حرب أهلية مثلا، أو احتلال، أو ما شابه أباه، بحيث يضطلع الوزراء بمهام الوكلاء، وبحيث المطلوب حينذاك المحافظة على الموجود على الأرض، لا رسم سياسات التطوير ولا التنمية ولا التخطيط، ولا التعامل «السياسي» مع الأحداث، ولا مشاركة بقية الوزراء في «الهيمنة» على مصالح الدولة. أكرر «فقط المحافظة على ما هو موجود على الأرض ووقف التدهور إلى حين تشكيل حكومة من الساسة».

ولعلم صاحبنا البليغ حمدي، وكل البلغاء والبالغين، أن من صلاحيات الوزير، أي وزير، مناقشة زملائه الوزراء في أمور وزاراتهم، والتصويت على أي قرار ينوون اتخاذه. وأتذكر جيدا ما أبلغني به المرحوم د. أحمد الربعي – أمام شهود – أنه ومشاري العنجري، عندما كانا وزيرين، رفضا شراء طائرات لمصلحة الخطوط الجوية الكويتية بحجة الشك في التنفيع والاشتباه في دخول مصالح خاصة في الموضوع. والعنجري حي يرزق، أطال الله عمره، وبالإمكان الاستفسار منه للتأكد من صدق المعلومة.

هذا مثال لصلاحيات الوزراء ومهامهم، ونسيت أن أشير إلى أن الربعي متخصص في الفلسفة، وكان وزيرا للتربية يومذاك، والعنجري في المحاسبة وكان وزيرا للعدل، ولو أن أحدهما قاد طائرة لدفعت «الكويتية» التعويضات لأسر الركاب الضحايا في اليوم التالي مباشرة، لكنها «مصالح الدولة» التي كفل الدستور لهما المشاركة في الهيمنة عليها. وقس على ذلك.

ومن ينادي بالتكنوقراط كمن ينادي بأن «يبتلش كل وزير بوزارته»، أو أن يدخل الوزير اجتماع مجلس الوزراء رافعا شعاراته «محد له شغل فيني» و»سيب وأنا أسيب»، وهذا إخلال بمواد الدستور ومبادئه وطعنة له في الترقوة، وخمبقة في ليلة خميس.

وما يفعله بعض الوزراء الآن يُسمى في علم قيادة الدول «هجص بأجنحة مطاطية تمنع التسرب»، لأن الموافقة على نقل موظف من إدارة إلى أخرى هي من صميم صلاحيات الوكيل والوكيل المساعد، لكن الوزراء «شفطوا» هذه الصلاحية وأدخلوها في حساباتهم الجارية ليقايضوا بها النواب.

ثم تعال لنتخيل وزير الصحة، الطبيب، وهو يتحدث مع وزير المواصلات، المهندس، عن الألياف الضوئية وضرورة تناولها ثلاث مرات بعد الأكل! للمرة المليون، القضية مش قضية تخصص بقدر ما هي قضية سعة الاطلاع واستشارة المختصين ثم القدرة على اتخاذ القرار، وضرورة توافر الغطاء النيابي للوزير، وأمور أخرى. فاكتشاف انهيار الخدمات الصحية، على سبيل المثال، لا يحتاج إلى سؤال طبيب ولا مجرب، الفراش البنغالي يعرف ذلك، ويعرف ان الأمر لا يتطلب أكثر من زيارة واحدة لمستشفيات النمسا ومحاكاتها إداريا وفنيا، لكن ماذا نقول غير «الله يكون بعون كل العاشقين».

الحديث يطول، واختصاره أن وزير الصحة، على سبيل المثال أيضا، مسؤوليته أن يناقش الوزراء في عدد المستشفيات المطلوبة ومساحات الأراضي الواجب توافرها والميزانيات المطلوبة، ويضع ذلك كله في خطة الدولة (لا ادري لماذا تضحكني كلمة «خطة الدولة»)، بينما يهتم وكيل الوزارة بالتفاصيل الفنية، ويتفرغ الوزير بعد ذلك لمناقشة بقية الوزراء في شؤون الدولة كلها. 

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *