محمد الوشيحي


 ارتاحي… زِيَم

تريدون الصدق أم ابن عمه اللزم الطوفة على الطوفة؟ لولا الصحافة والإعلام لبقيت أنا في حال ترثي لها الأحوال، تمضغني الضبعة وتبصقني… كان اليوم الثالث والعشرون من كل شهر هو يوم عيدي السعيد ونحسي المجيد، واليوم هذا – لمن لا يتحدث لغة الفقر – هو يوم تسلم المعاشات، هو اليوم الوحيد الذي أبتسم فيه لتحلى الصورة، وهو اليوم الذي أدفع فيه إيجار منزلي وقسط سيارتي بعدما يهبر البنك قرضه الذي يعادل نصف راتبي، واليوم الذي أرتدي فيه بزتي العسكرية وأشد وثاق المسدس على وسطي، وأرتب النجوم على منكبيّ، وأتفقد جيبي فإذا هو صحراء جرداء لا نبات فيها ولا ماء.

في الثالث والعشرين من كل شهر، وفي الدقيقة الأولى من بعد منتصف ليل الثاني والعشرين، أتقدم متلثما متبخترا متمخطرا إلى فرع البنك، فيأتيني صوت ماكينة السحب الآلي الأجش: «اهب يا وجهك، ما يمديهم يحطون معاشك جيتني تركض، تتلثم أو تتعرّى، أعرفك من بعيد، من مشيتك»، فأرد على الصوت بصوت أجش منه وأبش: «أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا، متى أضع البطاقة تعرفيني، جيتك وجاك الموت يا تارك الصلاة»، وأمتشق البطاقة من غمدها، ولا دريد بن الصمّة وفرسان هوازن، وأطعن الماكينة في مقتل، أسفل الترقوّة، فإذا هي تئن وأنا بوسلمان، وتنقّ راتبي صاغرة فاغرةً فاها، وإذا بالفلوس في يدي تغمغم وتتمتم: «أرجوك ضع فاصلة بين (السلام عليكم) و(مع السلامة)، لا يجوز دمجهما هكذا». فأزجرها وأنهرها: «صه، ولا كلمة، ما عندنا فلوس تسولف تالي الليل».

ودارت بي الأيام، من تلكيعة إلى تلكيعة أنكى منها وألكع. الديون تتوالد كما الأرانب والقطط، خذ من هذا وسدد ذاك فيكبر الدين، وخذ من ذاك وسدد ذيّاك فيتضاعف الدين، ويا دارة دوري بينا، ضلك دوري بينا، تا ينسوا أساميهن وننسى أسامينا. فتضيق بي الأرض، فأمتطي صهوة الأدعم (كابريس موديل 92، مضى على سنة صنعه أحد عشر عاما، ليس في جسمه موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو دعمة تويوتا، ولا نامت أعين الجبناء)، ولا سجائر في الجيب تعين على الحزن، ولا معلبات في الثلاجة تحمي ظهر أطفالي من غزوات الجوع، وأتجه إلى الوفرة، حيث معشوقتاي تنتظرانني على الموعد كالعادة، السماء والصحراء، فأستلقي على ظهري بعدما أشبك أصابعي خلف رأسي وأثني رجلا على الأخرى، وهات يا غناء بصوت عال لا يردده ورائي سوى الظلام والصدى والوحشة.

وذات ليلة وفراوية مقمرة، وبعد أن استلقيت وتشابكت أصابعي خلف رأسي، مرّ بي الحجاج بن يوسف الثقفي، الداهية الخبيث الفصيح، داء العراق ودواؤه، يغنّي مخاطبا فرسه: «هذا أوان الشدّ فاشتدي زِيَم»، فتسلّمت منه زمام المبادرة، واستدعيت شياطين شعري ومردة ابن داود، فأتتني تتمايل حبواً، ونثرت جواهر الأبجدية أمامي وبجانبها العقد، فصففت الجوهرة تلو الجوهرة، في قصيدة طويلة أنشدْتها مرة على لحن «المسحوب» ومرة على «الهجيني»: «يا كيف جاع الذيب في وسط الغنم، هل طاحت أسنانه ونابه من فمه؟ / وإلى متى والجوع له مثل الصنم، يتْعبّده ويحب كتفه واقْدمه؟ (قدمه)…».

وقبل أن تكتمل قصيدتي نهضت واقفا بعدما قررت اقتحام الإعلام بكتفي، وتقدمت باستقالتي من العسكرية واتجهت إلى شارع الصحافة مباشرة، لأجد نفسي وجها لوجه أمام خزائن الأرض، حي هالشّوف، وأضحيت الإعلامي الأعلى أجرا في الكويت خلال سنوات ثلاث، كما قيل لي، وازدحم منزلي بالهدايا من كل فج عميق، وتوالت الدعوات إلى الغداء والعشاء في منازل الكويت من المحيط إلى الخليج، وفاض درج مكتبي بالعروض المقدمة من الصحف والقنوات الفضائية… يااااالله، شوي شوي عليّ يا زِيَم تكفين، قلنا اشتدي لكن ليس إلى هذه الدرجة.

لن أتظاهر بالمسكنة كما اعتاد البعض لطرد عين الحسود، خصوصا بعدما بات دخلي الشهري أضعاف أضعاف دخل الوزير (اقصد الوزير الذي يعتمد على راتبه فقط)، وبعدما أدخلت ابني أغلى المدارس الأجنبية، وبعدما أهديت الأدعم (أهديته برفسة كريمة) واشتريت بدلا منه سيارتين موديل السنة في أسبوع واحد. والآن يمرني يوم الثالث والعشرين بملامح لا تختلف عن ملامح اليوم الذي قبله أو الذي يليه، وأمر على الديار، ديار ماكينة السحب الآلي، فأراها تضرب إحدى كفيها بالأخرى تارة وتلوّح بهما تارة، تلعن الحظ وتغني متهكّمة: «يا ناسينا يا ناسينا، من لقي شيكاته نسي بطاقاته، الله يرحم أيام ابن جلا ومتى أضع البطاقة تعرفيني»، فأتوقف وأحك رأسي متسائلا: «عفوا، هالوجه ما هو غريب عليّ، ذكريني بنفسج لو سمحتي يا حقيرة».

خلاص يا زِيَم، شددتِ بما يكفي ويفيض فارتاحي، وتعالي معي إلى معشوقتيّ الوفيّتين، السماء والصحراء، لتنضمي إلى الظلام والصدى والوحشة وترددوا خلفي، هذه المرة مع خالد الفيصل: «إلى صفالك زمانك علّ يا ظامي، واشرب قبل لا يحوس الطين صافيها».

أقول ذلك وأنا أدرس العروض المقدمة من أربع قنوات كويتية، وأضحك على ردة فعل صاحب إحدى القنوات أمس بعدما حددت له أجري، إذ قال: «ما تطلبه أكبر من رأسمال القناة بكبرها، نحن نريد منك أن تحرق الساحة السياسية لا أن تحرق جيوبنا»… هاهاها، والله يرحم أيام ابن جلا وعمامته. 

سامي النصف

صحارى وسواحل

لم يعد الخوف على مجتمعاتنا العربية والخليجية من أخطار الخارج، فالخطر الحقيقي أصبح منبعه هو انقسامات الداخل القائمة على معطيات الطبقية والفئوية والقبلية والطائفية وغيرها من فروقات طبيعية موجودة في كل مجتمعات الأرض دون ان يشكل هذا التلون الجميل مشكلة بل أصبح إضافة تفخر الدول والشعوب بها ولنا في انتخاب الرئيس باراك أوباما خير عظة وعبرة.

ومجتمعنا الكويتي حاله كحال أغلب مجتمعاتنا العربية الأخرى ينقسم إلى مواطنين من أصول قبلية وآخرين من أصول حضرية ولا إشكال في ذلك على الإطلاق حيث التزاوج قائم وأعلى المناصب متاحة للجميع فالانتماء القبلي ومثله الحضري هما جناحان يرفرف بهما الوطن إلى العلياء وقد أثبتت تجربة غزو عام 90 وأسماء الشهداء تسابق وتعاون الجميع لخدمة الوطن دون تفرقة.

لذا ولأجل تفاهم أفضل بين شرائح المجتمع الكويتي ومنعا لانشطار الداخل علينا أن ننظر بهدوء وروية لبعض ما يقال ويقلق ويضايق أو حتى يستفز هذا الطرف من ذاك كي يمكن حله والانتهاء منه دعما لوحدتنا الوطنية خاصة وقد عاش أهل الصحاري والسواحل يدا بيد خلال تاريخ الكويت الطويل ولم يحدث قط خلاف بينهم فما حدا ما بدا؟!

يضايق أصحاب الأصول القبلية وبحق ما يعتقدون انه نظرة تعال عليهم ولا أرى شخصيا ان هذا التصور محق بالضرورة، كما ليس من العدل أو المصلحة الوطنية الحديث المتكرر عن عمليات تجنيس هذه الحقبة أو تلك، فالجميع كويتيون في النهاية لا فارق إطلاقا بين قديمهم وحديثهم، ومثل ذلك تكرار قضية ازدواج الجنسية وكأن المقصود بها شريحة معينة من المجتمع علما بأنها مشكلة عامة تحتاج للتعامل معها بهدوء وروية.

بالمقابل يضايق الحضر كثيرا مقولة انكم سرقتم البلد في الماضي وحان دورنا لعدم صحته حيث ان الأغلبية المطلقة من الحضر وحتى من سكان الضاحية والشويخ هم من أسر متوسطة أو متواضعة الدخل لم يسرق أحد منهم قط ومن أثرى، وهم القلة القليلة، أثروا حالهم كحال بعض أبناء القبائل بجدهم وجهدهم وتجارتهم، كذلك يضايق الحضر الادعاء بمظلومية الآخرين كوسيلة لتبرير تخطيهم بالمراكز ويقولون ان الكويت عاملت أبناء القبائل الأفاضل بما لم تعاملهم به دولة أخرى قط وليس في هذا فضل أو منّة حيث ان الجميع سواسية في المواطنة وأمام القانون ولا داعي لخلق مشاكل من عدم.

ومن الأقوال المتكررة القول بأن الحضر استولوا على المناطق الصناعية والشاليهات والحقيقة ان عدد الشاليهات لا يزيد كما تدل الأرقام على ألفي شاليه اشتريت أراضيها في الأغلب من أبناء إحدى القبائل الكرام كما ان عدد القسائم الصناعية هي بالعشرات أو بالمئات بينما يتجاوز عدد الحضر إن جازت التسمية الأربعمائة ألف نسمة، أي ان المستفيدين من تلك الأمور لا يزيدون على 0.05% منهم تقابلها استفادة مماثلة من توزيع الحكومة للمزارع والجواخير والاسطبلات والمناحل، خلاصة القول ان الكويت معطاءة وكريمة وسخية مع الجميع دون تفرقة بين أبنائها المخلصين من حاضرة وبادية ولنشكر الله على النعم حتى تدوم لنا جميعا.

آخر محطة:

يقول لي سفير أميركي سابق محب للكويت، لم نعد نخشى عليكم من غزو خارجي بل مصيبتكم مما أسمعه يقال في بعض دواوينكم ومخيماتكم الانتخابية. نرجو أن يحجب صوتنا عمن يخدعنا ويدغدغ مشاعرنا بإثارة النعرات الفئوية والطائفية والقبلية حيث انها أصبحت السلعة الأرخص والأسهل للوصول للكراسي الخضراء على حساب تدمير وحدتنا الوطنية ومستقبل أبنائنا.

احمد الصراف

إكرام لحى الهيئات الشرعية

لا يشك غير المستفيدين من فكرة البنوك والشركات الإسلامية في أن الفكرة برمتها لا تعدو أن تكون طريقة كسب مميزة، ولا علاقة للدين والتدين بها لا من بعيد ولا من قريب. وسبق ان حذرنا منذ اكثر من 15 سنة، وفي أكثر من مناسبة ومقال، ولم نزل، من ان الفرق بين المؤسسات المصرفية التقليدية وتلك التي تسمى بالإسلامية شبه معدوم في غير مجال التسميات التي تطلق على التعاملات!! فهدف اي مصرف او شركة استثمارية هو تحقيق الربح لمالكيه، وهذا لا يتم بغير إضافة نسبة مئوية محددة إلى اي عملية مصرفية او تجارية تكون مقبولة من الطرف الآخر أو العميل! وهنا نرى ان نسبة الفائدة او الربح هي المحك والمعيار، وهذه ترتفع مع ارتفاع نسب الربح او الفائدة في السوق المحلي او العالمي وتنخفض مع انخفاضها، من دون وضع اي اعتبار لملاءة العميل المقترض، او ظروف السوق، او مبادئ التآزر والتآخي مع افراد المجتمع، او جنسية او دين المقترض ومدى حاجته للمال، فالنسبة المضافة تسمى هنا فائدة، ولدى المتعاملين بالشركة، المسماة باللاربوية، تسمى مرابحة، او اي شيء من هذا القبيل، وهي واحدة في كافة الأحوال ومتقاربة جدا. كما ان المصارف وكافة المؤسسات المالية، التي تطلق على نفسها تسمية «إسلامية»، تخلت في السنوات الاخيرة عن تحفظاتها السابقة برفض تحديد سعر فائدة محدد ومسبق على الوديعة، واصبحت الآن تتساهل كثيرا وتوافق على دفع فائدة محددة او الارتباط بدفع منذ اليوم الأول لوضع الوديعة لديها، وهذا التغيير الجذري في التعامل، الذي نسف سنوات طويلة من التحفظ والممانعة، لم يتطلب غير الايعاز للهيئة الشرعية، للبنك او الشركة، اصدار فتوى تجيز ذلك، مثلما اجاز رجال الدين انفسهم، بعد التحرير، قبول فوائد محددة سلفا على ودائعها، أو قروضها للحكومة، وبررتها في حينه بكونها «هدية من ولي الأمر»! وكل هذا لا يعدو ان يكون تلاعبا على الدين والمنطق والبشر السذج، ولا علاقة للدين والشرع بها.
كما سبق ان حذرنا من ان ربط التعامل التجاري، بكل تعقيداته، بالقضايا الدينية يتضمن محاذير عدة، ليس أقلها ربط نجاح الفكرة التجارية بنجاح الفكر الديني! فنجاح واحدة تعني تلقائيا نجاح أخرى، وفشل الاولى يعني كذلك فشل الثانية.
وقد حدث ما توقعناه، فقد تعرضت مؤسسات مصرفية ومالية إسلامية كبيرة، وفي دول عدة، لخسائر ضخمة قد تؤدي ببعضها لخسارة كامل رؤوس أموال حملة اسهمها ومقرضيها والمستثمرين معها. كما بيّنت الازمة المالية الاخيرة ان هذه المؤسسات، المسماة بالاسلامية، لا تتورع عن ارتكاب جميع انواع المخالفات والخروج علىجميع الاعراف التقليدية او الدينية، التي تدعي الالتزام بها، متى ما تخوفت من السقوط! وقد بيّنت البيانات المالية، التي نشرتها الصحف لبعض شركات الاستثمار، أنها لم تتورع عن الاقتراض من الغير بصورة مباشرة وبنسب فوائد فاحشة بلغت 13%. كما ارتبطت إداراتها بقروض محلية وخارجية في فترة كانت تعلم فيها جيدا انها لن تتمكن من سدادها! وهنا نتساءل من دون اي براءة او حسن ظن: اين تقوى وورع المشرفين على هذه المؤسسات؟ واين كان اعضاء اللجان او الهيئات الشرعية من هذه المعاملات؟ ام انها جاهزة فقط لقبض المقسوم واصدار الفتاوى على خاطر ولي الأمر؟ ولماذا لم يتكرموا برفض المشبوه من تلك المعاملات او حتى الاستقالة من تلك المؤسسات؟ ولو افترضنا ان من الممكن محاسبة مدققي حسابات تلك الشركات، فمن الذي سيحاسب أعضاء الهيئات الشرعية على سكوتهم حتى الآن على تصرفات إدارات الشركات التي ائتمنها المستثمرون والمودعون على أموالهم؟
أسئلة عديدة ستبقى دون جواب لاننا نعيش في مجتمع ينافق أفراده بعضهم بعضا، ولا يود أحد التجاوب عندما نضع اصبعنا على الجرح!!

أحمد الصراف