تريدون الصدق أم ابن عمه اللزم الطوفة على الطوفة؟ لولا الصحافة والإعلام لبقيت أنا في حال ترثي لها الأحوال، تمضغني الضبعة وتبصقني… كان اليوم الثالث والعشرون من كل شهر هو يوم عيدي السعيد ونحسي المجيد، واليوم هذا – لمن لا يتحدث لغة الفقر – هو يوم تسلم المعاشات، هو اليوم الوحيد الذي أبتسم فيه لتحلى الصورة، وهو اليوم الذي أدفع فيه إيجار منزلي وقسط سيارتي بعدما يهبر البنك قرضه الذي يعادل نصف راتبي، واليوم الذي أرتدي فيه بزتي العسكرية وأشد وثاق المسدس على وسطي، وأرتب النجوم على منكبيّ، وأتفقد جيبي فإذا هو صحراء جرداء لا نبات فيها ولا ماء.
في الثالث والعشرين من كل شهر، وفي الدقيقة الأولى من بعد منتصف ليل الثاني والعشرين، أتقدم متلثما متبخترا متمخطرا إلى فرع البنك، فيأتيني صوت ماكينة السحب الآلي الأجش: «اهب يا وجهك، ما يمديهم يحطون معاشك جيتني تركض، تتلثم أو تتعرّى، أعرفك من بعيد، من مشيتك»، فأرد على الصوت بصوت أجش منه وأبش: «أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا، متى أضع البطاقة تعرفيني، جيتك وجاك الموت يا تارك الصلاة»، وأمتشق البطاقة من غمدها، ولا دريد بن الصمّة وفرسان هوازن، وأطعن الماكينة في مقتل، أسفل الترقوّة، فإذا هي تئن وأنا بوسلمان، وتنقّ راتبي صاغرة فاغرةً فاها، وإذا بالفلوس في يدي تغمغم وتتمتم: «أرجوك ضع فاصلة بين (السلام عليكم) و(مع السلامة)، لا يجوز دمجهما هكذا». فأزجرها وأنهرها: «صه، ولا كلمة، ما عندنا فلوس تسولف تالي الليل».
ودارت بي الأيام، من تلكيعة إلى تلكيعة أنكى منها وألكع. الديون تتوالد كما الأرانب والقطط، خذ من هذا وسدد ذاك فيكبر الدين، وخذ من ذاك وسدد ذيّاك فيتضاعف الدين، ويا دارة دوري بينا، ضلك دوري بينا، تا ينسوا أساميهن وننسى أسامينا. فتضيق بي الأرض، فأمتطي صهوة الأدعم (كابريس موديل 92، مضى على سنة صنعه أحد عشر عاما، ليس في جسمه موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو دعمة تويوتا، ولا نامت أعين الجبناء)، ولا سجائر في الجيب تعين على الحزن، ولا معلبات في الثلاجة تحمي ظهر أطفالي من غزوات الجوع، وأتجه إلى الوفرة، حيث معشوقتاي تنتظرانني على الموعد كالعادة، السماء والصحراء، فأستلقي على ظهري بعدما أشبك أصابعي خلف رأسي وأثني رجلا على الأخرى، وهات يا غناء بصوت عال لا يردده ورائي سوى الظلام والصدى والوحشة.
وذات ليلة وفراوية مقمرة، وبعد أن استلقيت وتشابكت أصابعي خلف رأسي، مرّ بي الحجاج بن يوسف الثقفي، الداهية الخبيث الفصيح، داء العراق ودواؤه، يغنّي مخاطبا فرسه: «هذا أوان الشدّ فاشتدي زِيَم»، فتسلّمت منه زمام المبادرة، واستدعيت شياطين شعري ومردة ابن داود، فأتتني تتمايل حبواً، ونثرت جواهر الأبجدية أمامي وبجانبها العقد، فصففت الجوهرة تلو الجوهرة، في قصيدة طويلة أنشدْتها مرة على لحن «المسحوب» ومرة على «الهجيني»: «يا كيف جاع الذيب في وسط الغنم، هل طاحت أسنانه ونابه من فمه؟ / وإلى متى والجوع له مثل الصنم، يتْعبّده ويحب كتفه واقْدمه؟ (قدمه)…».
وقبل أن تكتمل قصيدتي نهضت واقفا بعدما قررت اقتحام الإعلام بكتفي، وتقدمت باستقالتي من العسكرية واتجهت إلى شارع الصحافة مباشرة، لأجد نفسي وجها لوجه أمام خزائن الأرض، حي هالشّوف، وأضحيت الإعلامي الأعلى أجرا في الكويت خلال سنوات ثلاث، كما قيل لي، وازدحم منزلي بالهدايا من كل فج عميق، وتوالت الدعوات إلى الغداء والعشاء في منازل الكويت من المحيط إلى الخليج، وفاض درج مكتبي بالعروض المقدمة من الصحف والقنوات الفضائية… يااااالله، شوي شوي عليّ يا زِيَم تكفين، قلنا اشتدي لكن ليس إلى هذه الدرجة.
لن أتظاهر بالمسكنة كما اعتاد البعض لطرد عين الحسود، خصوصا بعدما بات دخلي الشهري أضعاف أضعاف دخل الوزير (اقصد الوزير الذي يعتمد على راتبه فقط)، وبعدما أدخلت ابني أغلى المدارس الأجنبية، وبعدما أهديت الأدعم (أهديته برفسة كريمة) واشتريت بدلا منه سيارتين موديل السنة في أسبوع واحد. والآن يمرني يوم الثالث والعشرين بملامح لا تختلف عن ملامح اليوم الذي قبله أو الذي يليه، وأمر على الديار، ديار ماكينة السحب الآلي، فأراها تضرب إحدى كفيها بالأخرى تارة وتلوّح بهما تارة، تلعن الحظ وتغني متهكّمة: «يا ناسينا يا ناسينا، من لقي شيكاته نسي بطاقاته، الله يرحم أيام ابن جلا ومتى أضع البطاقة تعرفيني»، فأتوقف وأحك رأسي متسائلا: «عفوا، هالوجه ما هو غريب عليّ، ذكريني بنفسج لو سمحتي يا حقيرة».
خلاص يا زِيَم، شددتِ بما يكفي ويفيض فارتاحي، وتعالي معي إلى معشوقتيّ الوفيّتين، السماء والصحراء، لتنضمي إلى الظلام والصدى والوحشة وترددوا خلفي، هذه المرة مع خالد الفيصل: «إلى صفالك زمانك علّ يا ظامي، واشرب قبل لا يحوس الطين صافيها».
أقول ذلك وأنا أدرس العروض المقدمة من أربع قنوات كويتية، وأضحك على ردة فعل صاحب إحدى القنوات أمس بعدما حددت له أجري، إذ قال: «ما تطلبه أكبر من رأسمال القناة بكبرها، نحن نريد منك أن تحرق الساحة السياسية لا أن تحرق جيوبنا»… هاهاها، والله يرحم أيام ابن جلا وعمامته.