أوردت وكالات الانباء ان صاحب بقالة صغيرة في احد احياء انكلترا ترك متجره مفتوحا من دون اي عامل في ثاني ايام الاحتفال بأعياد الكريسماس، كما ترك لوحة اخبر بها زبائن المحل بأنه وعماله سيتركون المتجر مفتوحا، ليذهبوا في الاعياد مع اسرهم، وان بامكانهم اخذ ما هم بحاجة إليه من مواد، ووضع ثمنها في صندوق «أمانة» خاص، وتمنى للجميع اعيادا سعيدة.
وعند عودة صاحب المحل في اليوم التالي وجد مبلغ 187 جنيها في الصندوق، كما وجد رسائل شكر عدة من بعض الزبائن، وهذا ما ادخل الكثير من السرور الى قلبه.
لا يمكن طبعا تخيل ما كان سيحدث لمتجر هذا الرجل لو كان وسط لندن مثلا، حيث يقطن «الربع» او لو كان في احدى مناطق الكويت، ولن نذهب بعيدا الى مدينة في بنغلادش! فثقافة الامانة والشرف لا تعرفها مجتمعاتنا الا في حال ارتباط الامانة بالحفاظ على «سلامة» اعضاء محددة من اجسادنا، اما الشرف فمفهومه الوحيد لدينا لا يحتاج الى تعريف لسخافته.
كما ان تصرف صاحب المتجر النبيل الذي تلمس بطريقة مميزة حاجة زبائنه لما يبيع في ساعات الليل المتأخرة، ووضع مصلحتهم فوق خوفه من ان يسرق، لا يمكن الا ان يوصف بقمة التحضر في التصرف، ولا يمكن وصف زبائنه الذين دفعوا كاملا ثمن ما اخذوه من البقالة، بأنهم اقل حضارة من تصرفه، وهذا حقا ما نفقده في مجتمعاتنا التي سيطرت عليها ثقافة «نحن الفرقة الناجية»!
ذكرني هذا الخبر الجميل حقا بتجربة مماثلة مررت بها قبل 20 سنة تقريبا، عندما اضطررت واسرتي للمكوث في فندق على احد الطرق السريعة في اميركا، وتبين لنا ان الفندق يدار خلال العطل، وبعد ساعات العمل الاعتيادية، من غير موظف، وما على الراغبين في المكوث فيه، الا رفع سماعة الهاتف الوحيد الموجود في الصالة الصغيرة لكي يرد عليهم جهاز تسجيل، مرحبا وطالبا ادخال رقم بطاقة الائتمان ليرد عليك الجهاز نفسه بعد لحظات برقم سري يمكن عن طريقه فتح باب الصالة المؤدية الى غرف الفندق والى غرفتك او الغرف التي حجزتها، لتتمّ تسوية الامر مع الادارة في صباح اليوم التالي.
فوجئت وزوجتي بوجود بقالة صغيرة في الدور الارضي من الفندق تحتوي على كل ما قد يحتاجه القاطن فيه من صابون غسل والواح شوكولاتة واجبان وخبز وغير ذلك الكثير، ولم يكن هناك من يبيع، وكل ما كان علينا القيام به هو اخذ ما نريد ومن ثم وضع ثمنها نقدا في فتحة صندوق حديدي، وتسجيل رقم غرفتنا وتفاصيل المواد التي قمنا بأخذها من المحل على ورقة ووضعها في الصندوق نفسه لتتم محاسبتنا عليه في اليوم التالي!
اثار اسلوب التعامل دهشتي، وتبادلت وزوجتي النظرات لهذه الامانة واحترام الآخر، وكيف ان تصرفهم الحضاري اسعفنا في تلك الساعة المتأخرة من الليل بسبب حاجتنا الى أشياء كثيرة، وقد لاحظ اصغر ابنائنا «دهشتنا» فتساءل قائلا: لماذا تتعجبوا من ذلك، انه امر عادي! وايده بقية اخوته في ذلك، وقد شكل رأيهم صدمة «حضارية» لي ولوالدتهم، وتبيّنت الفرق بين طريقة تفكير اولئك الذين تلقوا الجزء الاساسي من تعليمهم في المدارس الحديثة، والغربية بالذات، وبين التعليم في مدارسنا ومجتمعاتنا التقليدية، فمنظر البقالة الصغيرة من غير بائع كان عاديا بالنسبة إليهم، وعكس ذلك بالنسبة إلينا، وربما لو كنا مكان اصحاب الفندق لما اقدمنا على فعل ما فعلوه بسبب مفهوم الامانة في ثقافتنا المشككة عادة في نوايا الآخر!
***
ملاحظة: يبدو ان لارتباط الحذاء في مجتمعاتنا بمفهوم القذارة سبباً «وجيهاً» ولم يأت بالتالي من فراغ! فقذارة الحذاء، الفعلية والرمزية، تكونت عبر السنين، بسبب ملامسته لأرضية المرحاض «القذرة جدا»، بمفهومنا الشرقي، ولو كانت الحمامات، سواء في بيوت من انطلقت منهم او من اظهروها، او بيوت الآخرين، نظيفة براقة معالجة بمختلف المعقمات والمنظفات، لكانت احذيتهم نظيفة ايضا، ولما كانت رمزا او اداة لاهانة الآخر، فمن يرفع حذاءه في وجه الآخر، او يضربه به، فإنه يعلن على الملأ، بصورة غير مباشرة بأن مرحاض بيته، او المراحيض التي يرتادها، قذرة جدا!
أحمد الصراف