سامي النصف

حكومة الأزمات الاقتصادية القادمة

في عام 2008 وصلت اسعار النفط الى 150 دولارا لمدة قصيرة دون رغــبة او ارادة من الدول المنتــجة وقـــد نتج عن ذلـك الأمر اقتناع شعوب العالم أجمــع بضــرورة ايجاد السبل الكفيلة بالاستــغناء عن الــنفط كسلعة استراتيجية وتحويله الى مادة خام خاملة كالفحم والموز وغيرهما.

لذا فحرصنا الشديد على حسن اختيار شخوص الحكومة المقبلة يكمن في حقيقة انه قد تواجهه ازمات «اقتصادية» غير مسبوقة في تاريخ الكويت بسبب اسعار النفط التي قد تنخفض بشكل دائم وعندها ستصبح الازمات «السياسية» السابقة امرا لا يقارن على الاطلاق بتلك الاشكالات الاقتصادية والمالية.

فأقسى وأشد الأزمات السياسية الماضية تمت وأسعار النفط في ارتفاع متواصل ولم تمس أمور عيش المواطنين حيث لم يتم خفض سعر الدينار او رفع اسعار المحروقات او ازالة الدعم عن المواد الغذائية او اللجوء لإيقاف عمليات التوظيف والبدء بعمليات الاستغناء عن المواطنين في القطاعين العام والخاص كنتيجة منطقية لتلك العجوزات في الميزانية.

ومما لا أستوعبه ولا يستوعبه كل مواطن شريف غيور على بلده مفهوم نرجو خطأه، مضمونه ان القوى السياسية والنواب لا يؤيدون ولا ينصرون إلا حكومة تضم من يزكونه حتى لو ثبت خطؤه وتعديه على الأموال العامة، وأما من هو خارج تلك التزكية فلا يستحق الدعم والنصرة والمؤازرة حتى لو كان أنقى وأطهر وأكفأ الناس.

لقد كانت الكويت حتى عقود قليلة في أشد حالات الفقر والفاقة رغم ان عدد سكانها لا يزيد آنذاك على 100 ألف نسمة من العاملين المنتجين المكافحين وعلى نفس رقعة الارض الحالية ثم أتى الذهب الأسود ليغيرنا من حال إلى حال، لذا يجب ان نأخذ على محمل الجد الشديد احتمال بقاء اسعار النفط في مستويات منخفضة لأجل غير مسمى فنحن في النهاية بلد لا زرع ولا ضرع ولا اقتصاد ولا خدمات ولا استثمار ولا سياحة فيه، وعلينا ان نحتاط للأسوأ وان نجهز الدواء قبل «الفلعة» فذلك ما تقتضيه الحكمة والعقل.

ان الملفات السياسية القادمة بحاجة الى عقول خير من العقول التي ورطت الحكومة المستقيلة في اكثر من مطب، كما ان الملفات الاقتصادية (الاهم) بحاجة كذلك لعقول خير من العقول التي ثبت خطأ أقوالها وتوقعاتها أكثر من مرة، ان الذكاء والاحتراف عملتان نادرتان والبحث عمن يتصفون بهما عملية مضنية للغاية الا ان للحصول على هؤلاء فوائد ومنافع جمة لا تعد ولا تحصى، وواجب حكومة «التغيير» ان تصل اليهم وتفاجئنا بوجودهم ضمن طاقمها القادم.

آخر محطة:
 أحد أسباب نهضة الكويت الحديثة في الستينيات ان الآباء المؤسسين كانوا يحسنون الاختيار ويفرقون بين من يوفر ويعمر من ناحية ومن يخرب ويدمر من ناحية أخرى والموضوع ذو شجون.

احمد الصراف

الزرزور وعازف الفيولين

قبل اربعين عاما، عندما زرت لندن لاول مرة، صدمت حضاريا بأمور عدة ليس المجال هنا لسردها جميعا، ولكني اتذكر ان رؤية العصفور الصغير وهو يحط على طاولة الطعام التي كنت اتناول غذائي عليها في حديقة «الهايدبارك» كان مفاجئا لي! فلم يسبق ان امتلكت طيور بلدي تلك الجرأة في الاقتراب من البشر، وضحكت بداخلي وانا اكلم نفسي قائلا ان ذلك الزرزور الصغير ما كان ليجرؤ على المخاطرة بحياته ومستقبله، لو كان يعرف الخلفية «الحضارية» التي جئت منها، والتي لم تكن تسمح لطائر، مهما صغر حجمه، بأن يقترب كل تلك المسافة من دون ان تنتهي حريته او حتى حياته.. الى الابد.
كما كنت اتعجب من طريقة حياة الموسيقيين المشردين، واختيارهم الشارع كمأوى. وكثيرا ما كان العزف الجميل لبعضهم يستوقفني لدقائق طويلة للاستماع له وانا اعبر انفاق المترو الارضية في طريقي الى البنك، وكنت اتساءل دائما عن سبب عدم قيامهم بالعزف في الحفلات والاماكن العامة طالما كانت لديهم كل تلك المواهب! كما كنت احتار في سبب عدم وجود مأوى لهم في دولة غنية كبريطانيا، قبل ان اعرف ان غالبية هؤلاء كانوا ولا يزالون يفضلون ما يوفره لهم النوم في الشارع من حرية مقارنة بالعيش في الملاجئ، لما تفرضه من قيود على حرية تحركهم ونومهم وروتين حياتهم الخالي من اي التزام بقواعد او قيود لا تتقبلها نفوسهم التواقة للحرية المطلقة وغير المسؤولة!
تذكرت كل ذلك وانا اقرأ النص التالي من رسالة انترنت، وجدت ان من المجدي ترجمتها وبتصرف قليل: في يوم من ايام يناير الباردة اسند رجل ظهره الى حائط في احدى محطات مترو العاصمة الاميركية واشنطن، وبدأ بعزف مقطوعة رائعة للموسيقار العالمي باخ، على آلة فيولين قديمة، استمر عزفه لخمس واربعين دقيقة، واثناء ذلك مر به الآلاف في طريقهم الى اعمالهم، بعد ثلاث دقائق من العزف توقف رجل في منتصف العمر لثوان ليستمع له قبل ان يسرع الخطى مرة ثانية، وبعد دقائق اخرى توقف رجل للحظات ليسقط دولارا في الاناء الموضوع امامه، قبل ان يستمر في طريقه، وبعدها بدقائق جلس رجل آخر على مقعد خشبي مقابله وانصت للعزف مليا قبل ان ينظر الى ساعته وينطلق الى حال سبيله، واجبر طفل والده على التوقف لينظر في وجه العازف وحركات يديه، وكان الوحيد الذي ابدى اهتماما، او ربما فضولا، اكثر من الآخرين، ولكن وقوفه لم يطل كثيرا بعد ان اجبرته والدته على مواصلة السير! وتكررت الحال مرات عدة مع اطفال آخرين، وفي جميعها اجبروا على مواصلة سيرهم.
خلال الفترة كلها توقف 6 اشخاص فقط للحظات، ووضع عشرون شخصا اموالا في انائه، وكان اجمالي ما تجمع لديه يقارب مبلغ 32 دولارا، وعندما انتهى من العزف لم يلاحظ احد ذلك، ولم يكن هناك اي تصفيق، او تقدير لجهده، ولم يعرف احد من آلاف المارة ان ذلك العازف لم يكن سوى جوشوا بل، احد اشهر عازفي الكمان في العالم، وان المقطوعة التي عزفها كانت واحدة من اصعب ما لحن باخ للعزف على الكمان، وان الآلة التي عزف عليها كان ثمنها يزيد على 3،5 ملايين دولار! وما لم يعرفه اي من المارة ايضا ان «حفلة» جوشوا بل الاخيرة، التي كانت في بوسطن قبل يومين من وقوفه في محطة المترو، بيعت تذاكرها ذات المائة دولار بكاملها في يوم واحد.
هذه قصة حقيقية تم ترتيبها بين الفنان وبين جريدة واشنطن بوست كجزء من دراسة تتعلق بدقة الملاحظة ونفاذ البصيرة والذوق والاولويات في حياة البشر.
بينت التجربة باختصار اننا، وفي اي مكان عام، لا ننتبه عادة للجماليات او ندرك حقيقتها، كما لا نتوقف عادة لتقدير قيمة اشياء كثيرة تستحق النظر او التأمل، كما لا نلتفت كثيرا لاصحاب المواهب ان تواجدوا في المكان غير المتوقع او المناسب!
والخلاصة اننا اذا لم يكن لدينا لحظة واحدة للتوقف والانصات لواحد من اعظم عازفي القرن، وهو يعزف واحدة من اجمل المقطوعات الموسيقية، على مر التاريخ ومن خلال اغلى آلة كمان، فكم من الاشياء الجميلة الاخرى يا ترى التي لا نحس بوجودها؟

أحمد الصراف