سامي النصف

التنوير والتكفير

امضيت اليومين الماضيين مستمعا لندوات منتدى التنوير في الخالدية، وكان لي ضمنها مداخلات ملخصها اننا نحتفل هذه الأيام بمرور ما يزيد على مائة عام على بدء عمليات التنوير العربية، والتي نشأت في مصر على يد شخصيات أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وزكي مبارك، الا اننا نلحظ ان الأوضاع والمفاهيم القائمة في شوارع القاهرة لا تختلف هذه الأيام عن بدايات عصر النهضة بعكس ما حدث بعد مرور مائة عام على مشاريع التنوير في أوروبا وشمال أميركا واليابان.

وقد قلت ضمن مداخلاتي ان السبب كما أراه هو ان جميع رواد وأعلام النهضة والتنوير في المنطقة بدءا ممن أتى اسمهم في الفقرة السابقة مرورا بعبدالرحمن بدوي وخالد محمد خالد وعبدالله القصيمي وانتهاء بسيد القمني ومحمد شحرور ومحمد عابد الجابري وتركي الحمد ومحمد جابر الأنصاري وحسين أحمد أمين ونصر حامد أبوزيد والصادق النيهوم ومحمد سعيد العشماوي وفرج فوده وبرهان غليون وشاكر النابلسي ومحمد اركون وعبدالحميد الأنصاري وغيرهم قد قام عملهم على نقد التراث والقفز لنهره في محاولة لتغيير مساره أو لاقناع السابحين فيه من الشعوب بتغيير توجههم السياسي والثقافي والسباحة ضمن ذلك النهر ضد التيار.

واعتقد ان هذا هو السبب الرئيسي في بقاء عملية التنوير ساكنة غير متحركة في منطقتنا كونه يعني ان جل مفكري المرحلة (تقليديين وتنويريين) مشغولون في أعمال التراث الماضوي، البعض في مدحه والبعض الآخر في نقده، الا ان الرسالة الواضحة للأجيال الصاعدة هي ان حلول مشاكلهم تكمن جميعا في أدبيات الماضي وليس ضمن علوم المستقبل.

أما في دول الغرب وأمم شرق آسيا فلم يقم مفكروا وفلاسفة ومنظروا النهضة هناك كفولتيرو وروسو وديكارت وكانت وهيجل ونيتشه بنقد القديم أو التطرق لما أتت به كنائس العصور الوسطى من ممارسات، بل اختطوا لأنفسهم خطا تنويريا نهضويا يقدم الحلول لقضايا عصرهم والعصور اللاحقة، مما جعل الشعوب تخرج من مسار نهر تراث الماضي الى مسار نهر التنوير والنهضة، ومما جعل رجال الكهنوت في النهر الأول هم من يقومون ـ لا التنويريون ـ بعمليات نقد التراث المختصين به لتعديله كي يواكب العصر ويستقطب الجموع.

ودلالة صحة هذا المسار ان الحركة النهضوية الوحيدة التي استقطبت الجموع الشعبية الضخمة من المحيط الى الخليج وجعلتها تسبح في تيارها هي الحركة القومية ـ اليسارية في الخمسينيات والستينيات كونها لم تغرف من علوم الماضي ولم تنتقدها، بل خلقت مسارا موازيا جديدا آمنت به الشعوب وتبعته، الا انها اخطأت فيما بعد في الجمود الذي اصابها وفي تسليم مقاليد أمورها للجهلة من الثوريات العسكرية التي قادتها للهزائم، ولولا ذلك لكانت مازالت تسيطر على عقول وأفئدة الشعوب حتى يومنا هذا.

ان على حركة التنوير العربية ان تبتعد كل البعد عن الغوص في نهر التراث والعودة للماضي لنقد منابع الفكر الإسلامي كون هذا المسار الخاطئ خلال مائة عام دون نتيجة، اضافة الى استعدائه التيار الإسلامي شريك الأوطان في وقت يفترض ان يخلق التيار التنويري نهرا موازيا وخطا بديلا يترك للشعوب ان تختار ما تراه مناسبا لها من الخطين وكي لا يلجأ التيار الماضوي لاستخدام طلقة «التكفير» الناجحة ضد حركة التنوير كما استخدمها في الماضي وبنجاح كبير تجاه كل التوجهات السياسية المنافسة.

في الختام اعتقد ان على التيار التنويري ان يسوق لمنافستو وفكر جديد في شقه السياسي في الدعوة للدولة المدنية والديموقراطية ودعم الحريات العامة وصداقة الغرب، وعلى الليبرالية المالية غير المتوحشة كنهج اقتصادي، وعلى الانفتاح المجتمعي واعطاء المزيد من الحقوق للنساء كمسار مجتمعي، ولتطوير التعليم عبر تشجيع المدارس والمناهج الاجنبية من انجليزية واميركية وفرنسية وتدريس علوم العصر وارسال البعثات لجامعات الدول المتقدمة كخيار تعليمي وتشجيع الفنون المختلفة والرياضة والاستعانة بالدول المتقدمة، كذلك لحل اشكالات الصحة والبطالة والبيئة… إلخ، ثم ترك المجال بكل حرية للالتحاق بهذا التيار أو التيار الآخر دون عداوة أو فجور في الخصومة.

احمد الصراف

علماؤنا وتسامحهم

أقيم في قاعة “بروناي” بمركز الدراسات الشرقية في لندن في الثالث من الشهر الجاري احتفال كبير بمناسبة الذكرى المئوية لولادة الفنان القدير صالح (عزرا) الكويتي، الذي تشكل حياته واخيه داوود جزءا مهما من التراث الفني للكويت والعراق، وحتى لسوريا ومصر في ثلاثينات واربعينات القرن الماضي. وقد قدم صالح الكويتي مجموعة اعمال فنية جاوزت الالف خلدته وألحانه في ذاكرة شعوب المنطقة. كما شدا باعماله معظم مطربي ومطربات تلك الحقبة من امثال سليمة باشا مراد وداخل حسن وخضيري بو عزيز وعفيفة اسكندر وراوية ونرجس شوقي وزهور حسين وغيرهم الكثير. كما ترك بصماته الواضحة على الفن الشعبي الكويتي وغنى له الكثير من مطربي الكويت والبحرين والسعودية وحتى اليمن.
ولو كان الزمن غير هذا الزمن والوجوه غير هذه الوجوه لكانت الكويت اولى بالاحتفال بمئوية هذا الفنان الكبير الذي ادخل الفرح والسرور وحب الحياة على قلوب آبائنا واجدادنا، فقد سبق لهذا الفنان ان احيا الكثير من المناسبات السعيدة وبالذات للشيخ احمد الجابر الصباح حاكم الكويت الاسبق. ولكن على الرغم من دور هذا الانسان في الحياة الفنية الكويتية، وربما بسبب ذلك، فانه ليس له ذكر في اي شارع او كتاب او مقرر وكأنه لم يكن يوما ما جزءا من تاريخ الكويت ولا من شعبها، ولم يحمل اسم هذا الوطن ويعطيه لابنائه واحفاده من بعده.
وقبل مائة عام كذلك وصلت اول ارسالية تبشيرية مسيحية الى الكويت لتقديم خدمات طبية، ونجحت البعثة في فتح اول مستوصف في عام 1911. وكان الدكتور ماليري اول من عمل في المستوصف، ثم جاء الدكتور لويس اسكندر في عام 1939 ليعمل في مجال تقديم الخدمات الطبية المجانية للكويتيين لفترة تقارب الثلاثين عاما، قبل ان يقفل المستشفى ابوابه في عام 1967. وقد نجح اطباء المستشفى والعاملون فيه من سيدات اميركيات ومواطنين كويتيين في انقاذ ارواح وعلاج عشرات الآلاف من المرضى والمصابين بامراض السل والتراخوما والدزنتاريا، على مدى عقود اربعة، كما ساهموا في علاج عشرات المصابين في معركة الجهراء.
وعلى الرغم من ان الدكتور اسكندر من مواليد الهند، حيث كان يعمل والده طبيبا هناك وقت ولادته، فانه ذكر في مقابلة اجراها معه الاعلامي المعروف رضا الفيلي سنة 1974، وبلغته العربية: ان سر بقائي في الكويت هو شعوري باني كويتي، يشاركونني واشاركهم، ولا اود ان اذكر احدا حتى لا ازعل الآخرين لان اصدقائي كثيرون في الكويت، وابني قسيس في الكويت ومن مواليد 1941، واذا ذهبت الى اميركا اشتاق الى الكويت كثيرا، وكل مريض يراجعني اكثر من مرة تربطني به الاخوة والمحبة والاتصال المستمر، وهؤلاء، وخصوصا الفقراء كنا نعالجهم مجانا لحبنا وعلاقتنا بهم (!!)
ونجد وفي هذا الزمن الاغبر وبعد ثلاثين عاما من العمل المخلص والدؤوب ان لا شيء لدينا خلد ذكرى رجل ساهم في علاج الآلاف من ابناء واجداد هذا الجيل من دون مقابل، فلا مكتبة ولا شارع ولا حتى جناح في مستشفى يحمل اسمه، في الوقت الذي تحمل فيه شوارع الكويت اسماء المئات من الشخصيات من الذين لا يعرف احد عنهم شيئا، ولا فضل لهم حتى على اهل بيتهم.
اكتب ذلك بعد ان اطلعت على رسالة “ايميل” عن كتاب “المختصر في تاريخ تصنيع الادوية” لمؤلفه ستيورات ادرسون، حيث ورد في الرسالة التسلسل الزمني لتاريخ العلاج والدواء ابتداء من المصريين القدماء الى عصرنا هذا. ويركز على اكتشاف واستخدام الادوية لعلاج الامراض خلال الازمنة المختلفة. وفي الفصل الثاني منه نبذة مطولة عن مساهمة العرب والمسلمين في ازدهار صناعة الطب والدواء في الفترة ما بين القرنين الرابع والحادي عشر الميلادي. والجميل واللافت للانتباه ان الكاتب في ختام حديثه عن العالم ابن سينا الذي ترجم كتابه “القانون في الطب” الى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي ليكون المرجع الاساسي لدراسة الطب لقرون، انه (اي ابن سينا) وجالينوس يظهران معا على شعار النبالة لجمعية الصيادلة الملكية البريطانية. وعلى الرغم من ان الشعار صمم واعتمد قبل أكثر من 164 عاما، فإنه بقي من دون تغيير من حيث شخصياته الرئيسية، فقد تغير تصميمه قليلا واضيفت له الالوان ولكن جالينوس وابن سينا بقيا في موقعيهما المميزين!
فهل لدينا مثل هذا التقدير وهذا التسامح اتجاه علماء العالم ودورهم العظيم في إسعاد البشرية وإمتاعها والتخفيف من آلامها؟ أشك في ذلك.

أحمد الصراف
habibi [email protected]