فتح الله عليّ فـ«لفّيت» الكرة الأرضية، من الدمام إلى أم القيوين، وشاهدت الكثير من عجائب الدنيا، الأهرامات وسنترال الفحيحيل، وقيّض الله لي فتمتعت بنقاهة في بعض سجون العالم، أوكرانيا وانجلترا ومصر، ونمت وبقربي مجموعة من الأخوة المجرمين، وقرأت عن «الأديب الياباني» الذي عاش في قاع المجتمع المصري زهاء خمس عشرة سنة ليكتب عن «المجتمع التحتي»، عاشر خلالها اللصوص وتجار المخدرات وبائعات الفل والياسمين، في الباطنية وحي السيدة وبولاق، فأغرتني فكرته، وقررت الاقتداء به.
وكنت حينها أدرس في القاهرة عن عمر يناهز التاسعة عشرة، فحملت عدتي، الكشكول والقلم، وخبأت السكين خلف ظهري، وتوجهت إلى المنطقة الأشهر لتجمع اللصوص وتجار المخدرات، الباطنية، وفي الطريق كنت أمني نفسي بمنظر لص يلطش محفظة من جيب أحد المارة، ومن هناك سيمر أباطرة المخدرات الكبار يمشون بطاووسية وخلفهم صبيانهم، وبالتأكيد سيتعارك الصبيان بأوامر من الكبار للسيطرة على المنطقة، وسأسعى بينهم بالصلح، فالصلح خير. وجلست في المقهى، بانتظار مؤشر يفتح النفس، لكن شيئا لم يلح في الأفق، و«في فجأة» اقتربت مني جلابية وبداخلها رجل قصير للغاية، لا يكاد يُرى بالعين المجردة، يبدو من هيئته أن بينه وبين الماء والصابون سوء فهم عميق، أما الشامبو فقضيته معه منظورة أمام المحاكم، هذا واحد من الصبيان بلا شك، أتى ليوزع المخدرات، لكنه جلس صامتا بالقرب مني، لا بد أنه أوجس خيفة وساورته الشكوك فيني، فطمأنته: «متخفش، عيش حياتك»، فاستفسر مني عن قصدي فشرحت له: «علي الطلاق انا مش بوليس، وزّع مخدراتك وأنت مرتاح، أنا بس جاي أكتب عن حياتكم كمجرمين»، فتساءل وأجاب على تساؤله، وكان واسع الثقافة والاطلاع: «أنت أهبل يابني؟ علي الطلاق أنت أهبل»، فاقترحت عليه أن نوحّد طلاقنا من باب التوفير، بدل أن يحلف كل منا بالطلاق بمفرده، بلاش بعزقة، فدفع الكرسي برجله بغضب ونهض وجلس هناك وهو يشتم الدنيا ويشتمني: «هوه أنا ناقص هبل عشان يبعت لي ربنا هبل مستورد»، وانتظرت أن تبدأ عمليات البيع أو اللطش، ولا فائدة، فنهضت وكتبت في الكشكول: «الباطنية كذبة كبيرة، والياباني ابن كلب»، وعلى السلخانة يا اسطى، او المسلخ كما نسميه، كي أرى تجار اللحمة وقسوتهم في التعامل مع عمالهم كما جاء في ترجمة كتاب الياباني، وفي السلخانة وجدت ضالتي وتحرك القلم على صفحات الكشكول.
ثم جلست مع شحات محترم في مصر الجديدة، وعرضت عليه أن يحكي لي قصته، فتظاهر بالبكاء والعوز ولم يتكلم قبل أن تنتقل الجنيهات من جيبي إلى جيبه في هجرة جماعية مريبة، وبحثت عن لص وأعياني البحث، إلى أن أبلغني أحد الزملاء أن اللص فلان مستعد أن يتحدث إليك بمبلغ متفق عليه، ووافقت، وجئته في مكانه في الإسكندرية وسألته عن طبيعة عمله وآلية التنفيذ، فحدثني وأسهب، وعدت للزملاء وأنا أردد الكلمة المعروفة: البيئة المحيطة هي المتهم الأول في الجريمة.
وقرأت هذه الأيام تقارير ديوان المحاسبة الكويتي، وتمعنت فيها، فاكتشفت أن فيها من كشكولي الشيء الكثير؛ الأباطرة الكبار، تجار اللحمة، لصوص المَحافظ، بفتح الميم لا ضمها، والشحاتين، وتذكرت بأنني شاهدت حكومتنا من قبل، في الإسكندرية، إن لم تخني الذاكرة.