إن الأحداث الأخيرة التي تطل علينا من روسيا في جورجيا تأكيد على عودة دور الدولة وربما عودة التاريخ، فروسيا الجديدة أكدت دورها كدولة ضمن الحدود الروسية أولاً ثم بدأت بتأكيد دورها خارج حدودها. كما أن الأحداث التي تطل علينا مع عودة التطبيع العالمي مع أنظمة عربية عديدة كانت في عداد الخارجة عن القانون الدولي لتؤكد لنا أنه لا بديل في العالم الجديد عن وجود الدولة وانحياز الدول لبعضها البعض. فالدول تتصارع في الغرب والشرق لكي تتفاهم ثم تعقد الصفقات دون التفات كبير للشعوب والبيئة وغيرها من المسائل. هكذا أصبح من السهل على الولايات المتحدة أن تتفاهم مع الرئيس الليبي العقيد القذافي رغم التاريخ شديد السلبية بين البلدين والضيق الذي تشعر به المعارضة الليبية التي تؤمن بالديموقراطية. وفي الوقت نفسه أصبح من الممكن للرئيس الفرنسي أن يتفق مع سورية رغم الشعور بالضيق في صفوف قطاعات لبنانية رئيسية، كما قد يكون ممكناً أن تتفق الولايات المتحدة مع أحمدي نجاد وإيران بغض النظر عن آراء المعارضة الإيرانية بما فيها إخراج العراق لـ «منظمة مجاهدي خلق» المعارضة من أراضيها. هكذا سنجد أن الدول ستنحاز في نهاية اليوم للدول وأنه بينها لغة مشتركة وتسعى لحماية مصالحها من خلال الاتفاق مع الدول على المسائل القابلة للاتفاق بغض النظر عن مدى تناقض ذلك أم تناغمه مع قضايا أخرى مثل الديموقراطية، وحقوق الإنسان، والمعارضة، والانتخابات، والمشاركة السياسية، والحريات.
ولكن مع نهاية الحرب الباردة وفي الجزء الأخير من القرن العشرين سقط الاتحاد السوفياتي وسقطت دول اوروبا الشرقية الشيوعية بأسرع من البرق، وفي الوقت نفسه كانت ثورة القطاع الخاص في أوجها في بريطانيا والولايات المتحدة واوروبا مما أعطى للصورة الجديدة بريقها، إذ تبين مع نهاية الحرب الباردة وبداية العولمة أن الشركات العالمية وشركات القطاع الخاص ستقوم بدور الدولة المتراجعة عالمياً. هكذا بدأ العالم يشعر بنهاية التاريخ، وربما المقصود نهاية الدولة كما عرفناها على مدى العقود. كما أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 جاءت لتؤكد دور المجموعات العابرة للقارات مثل «القاعدة» والتي لا يتحكم بها سقف دولة. بل يمكن النظر إلى السياسة الأميركية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر بأنها سلسلة من السياسات التي حاولت تهميش الدول العربية الصديقة والعدوة لها وذلك اعتقاداً منها أن ضعف الدولة سيؤدي للحقوق والديموقراطية على المستويات كلها.
ولكن هذا الأمر يجري الآن التراجع عنه بدرجات مختلفة وصولاً إلى وضع الحكومة الأميركية يديها على أكبر شركتين للرهن العقاري في الولايات المتحدة. هكذا تقع تراجعات وعودة مرة ثانية لدور الدول. إن الدولة بصفتها ممثل للاقتصاد والسياسة والأمن والجيش والقوة والمصالح العليا والمؤسسات مازالت هي اللاعب الرئيسي في العالم.
لقد تبين في المرحلة الماضية أن سقوط الدولة لا يساوي نشوء الديموقراطية، بل يؤدي لنشوء حالة من الفوضى، وأن الفراغ يسهل تعبئته من قبل القوى الفوضوية. هكذا سقطت الدولة ومؤسساتها في العراق وجاء مكانها لفترة طويلة الفوضى والعنف الأهلي، وسقطت الدولة بين الضفة وغزة وجاء مكانها حالة من الفوضى، وسقطت الدولة في لبنان فسار لبنان في اتجاه الحرب الداخلية، كما تواجه الدولة في الكويت تحديات كبيرة وليس شرطاً أن الديموقراطية هي التي تحل مكان ضعف الدولة، إن تراجع دور الدولة أم سقوطها لم يعن نشوء الديموقراطية بل الاستعداد لبدء صراعات أهلية، ودول فاشلة تؤدي إلى فوضى كبيرة أشد خطورة على النظام الدولي من وجود الدول التي تسيطر على أوضاعها واقتصادها. من جهة أخرى إن الانحياز، كما حصل في زمن الحرب الباردة، لدور الدولة سوف يؤدي لنقيضه كما حصل عندما وقعت ثورات اوروبا الشرقية وروسيا ودول أخرى في العالم.
إن المرحلة السابقة قد بدأت تغلق أبوابها لصالح العودة للسياسات وسطية تتعامل مع الدول وسياساتها واحتياجاتها ومصالحها دون أن تنجح في اغفال دور القوى الأخرى. السياسات الجديدة تنطلق من أهمية الدول وعدم اضعافها بل والاستعداد للتفاهم معها إذا ما غيرت سلوكها. ومع ذلك ستبقى القيم التي تحكمت في الأعوام العشرين الماضية مستمرة، فقد تداخل كل شئ مع المرحلة الجديدة: الدول لديها دورها وأهميتها، ولكن الأبعاد الخاصة بالديموقراطية والحريات والحقوق يصعب طمسها كما كان الأمر في الماضي وإلا وقعت الثورات وعادت المجتمعات تتخلى عن الدول. في المرحلة المقبلة سيكون هناك صراع وتعايش جديد بين دور الدولة بصفتها اللاعب الرئيسي والعديد من اللاعبين من خارج الدولة: المواطن، الفرد، المجتمع المدني، الجمعيات، القطاع الخاص وكل القوانين والحريات التي تضمن نزاهة الدور وعدم الخضوع للتمييز.