الوقت صباحاً… قبيل السابعة بقليل: كم هي مربكة تلك الصورة. الازدحامات المرورية ترفع 10 درجات من ضغط الدم. التشاجر والتشنج أمام المدارس والقلق من التأخر عن الوصول إلى العمل يرفع عشراً أخرى. صوت المذيعة في «صباح الخير يا بحرين» تدعو بعبارات موفقة تارةً وتائهة تاراتٍ أخرى إلى الابتسام والشعور بالسعادة وترك البغضاء والكراهية. يأتي الوطن على القمة، هو دائماً على القمة: لنعمل من أجل الوطن، هو الروح، هو الحياة، هو نحن ونحن هو. ينخفض ضغط الدم قليلاً. تقرأ المذيعة عناوين الصحف… أوووه… لماذا يا أختاه لم تشطبي تلك العناوين الطائفية؟ بضع عناوين تشكّك وأخرى تثير القلق وثالثة توحي بأننا نعيش في مجتمع متناحر. يضرب مقياس الضغط حد الحد!
صباح الخير يا وطن… كيف أحوال أهلك اليوم؟ كيف كانت أمس؟ وكيف ستكون غداً؟
ثمة حقيقة خانقة قاتلة، تلك التي صبتنا في قوالب طائفية حددت شكل وأسلوب التفكير العقلي والعاطفي وأذابت مفهوم المواطنة لتجعله سلعةً في أيدي الكثيرين مختلفة السعر كما هي مختلفة النوع والجنس، لكن الأزمة الكبرى التي لا مناص من تفكيك قالبها هي أزمة العلاقات داخل المجتمع التي باتت تنذر بما هو أعتى من العواصف المدمرة، فهل سيكون للسلطة موقفٌ جديدٌ وصريحٌ ومسئولٌ لوقف سيل التفكيك الجارف، فالبيت البحريني في خطر داهم؟
فرز يمتد ويشتد!
بون شاسع يفصل فصلاً مذهلاً بين الثوابت البحرينية التي قامت على أسس النسيج والوَحدة الوطنية المترابطة من قبيل شعار الأسرة الواحدة والتعايش والتلاحم، ومترادفات حميمة تقلب مضامين ومعاني الولاء والانتماء وتفرزها فرزاً كريهاً سفيهاً يمتد إلى ما شاء له أساسه الثقافي والفكري والطائفي أن يمتد. وتشتد إلى الدرجة التي يشاء لها المريدون أن تمتد. بمعنى أدق وأوضح، أن نقبل نتيجة الفرز بين سنة وشيعة لكل منهما أجندته المحصورة في مترادفتين مفروضتين على هذا البيت: موالاة ومعارضة، ولابد أن يكون طرف واحد فقط لا ثاني له هو البحريني، وهو البحرين، وهو المواطنة بتعريفها اللغوي والعملي والحقيقي، أما الطرف الآخر فلابد له من الخروج من زمان ومكان هذا التراب، فلا حق له في الوجود. لكن السؤال الأكثر إثارةً للحيرة: من هو ذلك الطرف؟
في تجربة الطائفتين، الأولى في العام 2002 والثانية في العام 2006 وأمام الاستحقاق الانتخابي وشرعية التوافق لتعزيز تجربة ديمقراطية جديدة أولدها المشروع الإصلاحي الذي أطلقه جلالة عاهل البلاد، ما يمكنني تسميته إقصاءً ملغماً لثوابت جمعت الطائفتين تحت مظلة الحكم، فبرزت تداعيات خطيرة تجزيئية لن يكون من السهل استئصالها إن بقي المفهوم المفروض بقوة الفرز يربط مواطناً بالانتماء والولاء، ويفصل مواطناً آخرَ بتهمة اللا ولاء! بعيداً عن المرجعية الدستورية التي حفظت لكل مواطن حقوقه وواجباته.
التحول القسري إلى «الطأفنة»
اليوم، وأمام حقائق واضحة مستلهمة من تجربة الطائفتين الكريمتين على مدى عقود من التعايش والعمل المشترك للمصلحة الوطنية، سنتحول قسراً إلى «طأفنة» التجربتين الانتخابيتين تأثراً حيناً بتيارات لها حضورها الكبير والمؤثر في المجتمع، وتأثراً حيناً آخرَ بالأوضاع الإقليمية كالعراق مثالاً، وتأثراً بالمشروعات السرية المزعومة للسيطرة ومؤامرات الولاء للخارج وبيانات الصحافة المغرضة ومهارات تأليب السلطة على الشعب، ورفع شعارات مخيفة ونشر بيانات سرية عنيفة، ليجد هذا المجتمع الصغير نفسه مقطع الأوصال منهوك القوى، يعيش على وجل من حاضره ومستقبله.
الغلبة اليوم – مع شديد الأسف – لمن يمتلك القدرة على صوغ خطاب طائفي لا رادع له، وينتظر العشرات من المتلهفين قراءة بضع تصريحات صحافية مجللة بصدق الولاء وطاعة ولي الأمر وبليغة الأثر في شق الصف لأسماء من نواب وكتّاب ومن لف لفهم صارت مألوفةً معروفةً. ترى، أين ستلقي بنا هذه الموجة؟
كنا طائفيين في الخفاء، والآن أصبحنا نجاهر بالطائفية. كنا نخشى كثيراً من قول كلمة، كلمة واحدة، قد تؤثر على الاستقرار الاجتماعي وتماسك العلاقات بين الطائفتين، واليوم أصبحنا نؤلف كتباً وقصائدَ ومرثياتٍ وأدبياتٍ ومن يحزن فليضرب رأسه في الحائط! كنا نحترم معتقدات بعضنا بعضاً فأصبحنا نوزع صكوك غفران ومفاتيح أبواب الجنان، ونرمي الآخرين في نار جهنم الحامية. ترى، من الذي يتوجب عليه أن ينهض ويحمينا مما نحن فيه من بلاء؟
ما كان المأمول من تجربتنا الديمقراطية أن تمنحنا القوة للتسقيط، وليس من باب السعادة والسرور أن نتباهى بصراع طائفي نيابي وتقارير كتبت بالنار والحديد، وليس من المقبول أن تستمر حرب الخطب الدينية الطائفية ونشر الحقد والضغينة، لكن إذا لم تقف البلاد، سلطةً ومؤسساتً، وقفة مراجعة حقيقية دقيقة لمجريات الأمور بمنظار بعيد عن العواطف وافتراض سوء النية، فستزداد الأمور تعقيداً سيئاً، ولعل الوجهاء والرموز الدينية والسياسية المعتدلة، لديها من الفرص ما يمكن أن تستفيد منه لبناء شراكة حقيقية مع السلطة، بتواصلها مع السلطة وانفتاح السلطة عليها، وإذا كانت دول قريبة استشعرت الخطر وفتحت قنوات «اللقاء الوطني» منعاً مما يحمله المجهول من مجهول، فنحن أجدر وأولى؛ لأن البحرين، كما عرفها العالم، حكومةً وشعباً، ليس فيها من يبيع ترابها بثمن بخس?